حقيقة المتنصر ماهر أحمد المعتصم بالله الجوهري
حقيقة المتنصر ( ماهر أحمد المعتصم بالله الجوهري )
تابعت حلقة الأسبوع الماضي من برنامج الحقيقة الذي يعرض علي قناة دريم 2 و الذي يقدمة الكاتب الصحفي وائل الإبراشي مساء يوم السبت من كل أسبوع و الذي أستضاف فيها المتنصر (ماهر أحمد المعتصم بالله الجوهري ) و الذي تقدم بدعوي في المحاكم المصرية ضد كلا من 1 – وزير الداخلية المصر بصفته الرئيس الأعلي لمصلحة الأحوال المدنية . 2 – رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان
لتغيير خانة الديانة بأوراقه الشخصية وبأوراق إبنته القاصر دينا ماهر أحمد المعتصم بالله من الإسلام للمسيحية. و التي يدين بها عي حد قوله منذ ثلاثون عام وهذا لا يعنينا بالطبع ولكن الذي يعنينا هنا و الذي يجب أن نلاحظه ونتنبه إليه و في شئ من التساؤل ، أين كان الرجل منذ ثلاثون عاما ؟ ولماذافي هذا التوقيت بالتحديد أقام تلك الدعوة ؟ إن دعوته هذه وفي هذا التوقيت تدعوا للخطورة كما أننا لا نستبعد أن يكون وراء تلك الدعوة أياد خفية تري هدم مصر واجبا بل فرضا عليها .
وما أن فرغت من مشاهدتي لتلك الحلقة إلا وأنتابني شعور ما فقد أحسست بأنني في حاجة إلي الوصول إلي احد أقرباء هذا الرجل أو أحد أصدقائه لكشف النقاب عن وجه الحقيقة وهذا ما قد كان ، فلقد تمكنا من الوصول إلي شقيقه الأكبر وزوجته ، ففي أسي موجع وبنبرات حزينة تحدثت إلينا زوجته فتبرئ نفسها من المشاركة مع زوجها في تنفيذ هذه المؤامرة موضحة ما قام به زوجها ليس عن رضا أو اقتناع كما أعتقد المخطئون وإنما كنتيجة حتمية لما كان يجري لهم من فقر وجوع وتنحي باللائمة علي أشقاء زوجها ووالدته وخصوصا شقيقه الأكبر الذي كان متكفل باخيه تماما فى كل شئ لانه كان لا يعمل ، غير أن كل محاولاته للحصول علي عمل باءت بالفشل. . وحتي لا تفرط هي في شرفها و تبيع جسدها كما أخبرتنا ، اختمرت عنده هذه الفكرة ألا وهي سبوبة التحول و التي ظلت معه في صراع ، يقدم أم يحجم وبالفعل أقدم علي فكرته حتي بستطيع أن يوفر الطعام لعائلته وخصوصا بعدما تعرف علي شخص يدعي ( جرجس ناجي رومان ) و الذي وعده بمساعدته ماد
يا وتوفير عمل له بمرتب عالي جدا وموبايل نوكيا n95 ) ) وتأمين مستقبل أبنته الوحيدة مقابل أن يتقدم بهذه الدعوة و التحول إلي المسيحية وتضيف لنا أيضا بان زوجها كان مواظبا علي اقامة الصلاوات وصوم رمضان حتي وقت قريب ، وهذا ما ينفي إدعاء هذا الرجل بأنه قد تحول إلي المسيحية منذ أكثر من ثلاثون عام ، ويقسم لنا شقيقه بأن أخيه مسلما ولم ولن يكن مسيحيا في يوم من الأيام إلا أنه قد ادعي ذلك لحاجته إلي المأ ل وأنه فوجئ مثل الأحرون بتلك الدعوة التي تقدم بها أخيه نافيا ان يكون اخيه قد ترك الإسلام وتحول إلي المسيحية ، وعن الظروف التي أدت لإبعاد شقيقه ماهر من كلية الشرطة حدثنا الرجل بأن أخيه لم يستقبل من كلية الشرطة كما أدعي بل تم فصله بعدما تم ضبطه يمارس اللواط مع أحد زملائه بالكلية .
وفي نهاية حديثنا أود أن أشير إلي ملاحظة ان التبشير في حد ذاته ليس جريمة ولا بد ألا يكون جريمة في أي دولة متحضرة ، وذلك أن التبشير ما هو إلا حوار في محاولة لإقناع بعض الأفراد بما يؤمن به المبشر ، ولكن في ظل الأوضاع الراهنة وفي ظل وجود قوانين ضد التبشير يتعين علي الجميع مراعاة ذلك واحترام القانون إلي أن نصل بالدولة إلي حرية الرأي و التعبير الحقيقية بدلا من الولولة ولطم الخدود .
39 التعليقات:
هل من مصدر لتأكيد كلامك؟؟
ما الذي يضمن انك بالفعل قمت باي اتصال؟؟؟؟؟
يبدو الكلام لا يزيد عن كونه انفعالات وكلام مرسل
أنا بشكرك جدالأنك فعلا وضحت الحقيقة للناس ولعلم الجميع أنا أسمي أمينة محمد إبراهيم صديقة أمال زوجة ماهر وماهر فعلا معملش كده بإقتناع بل نتيجة للفقر و الجوع و ياعالم الراجل ده مسلم و الله و من وقت قريب كان فعلا بيصلي و بيصوم لكن الفلوس الله يلعنها هي الي خليته يعمل كده وحسبي الله ونعم الوكيل
gو الله انتم يا مصاروة بقيتم مسخرة العالم و أساليبكم وألاعيبكم واضحة جدا مشان الفلوس تديروا أي شئ تبيعوا دينكم وتبيعوا شرفكم وتبيعوا أي شئ مشان الفلوس الله يخرب ابيوتكم يا زوامل
يا عم ما يتحول ولا يولع يلعن دين أمه علي دين أم يسوع ده ابن متناكة أوي يعبد المعرص يسوع علشان موبايل يحرق دين أم يسوعه علي دين أمك انت كمان
ممكن تكتب لنا مادة القانون اللى بيمنع التبشير في مصر لنتوقف عن التبشير؟؟
شكرا
شيل السايت من كل الجروبات لانة ملىء با الاكاذيب . وخاف ربنا وبطل فتن اذا كنت بتنتقد الدولة فا انت فتنة وكاذب وبتغير الحقائق ومضلل . والدولة لما تمنعكم تصرخوا كا النساء وتقولوا الدولة ظلمتنا
مني كمال
بالنسبة للأستاز صاحب التعليق الأول ممكن يشاهد الجزء الثاني للحقيقة و الذي نشر بعد حديثنا مع زوجة المدعو ماهر و الذ يؤكد كلامنا
وشكرا
هل يعقل أن يعبد إله يؤكل جسده ويشرب دمه إله لم يوفر الحمياية الي نفسه فعل سيحمي هذا الحيوان الذي يدعي بأنه لجأليسوع لحمايته
الاسف كان بودي احترم رايك واشارك في المدونه ولكن الاسف ظهر من كلامك واسلوبك انك شخص اعمي لا تفهم ولا تحب ان تحتر الاخر ولا عندك اي مسؤليه هتقولي عرفت منين هاقول
اولا : من اسلوبك في الكتاب الصور كلها تحيز وعبط ولا تدعي اي عاقل ان يحترم كلامك ولا رايك
ثانيا : الدين علمنا احترام الاخر مهم كان دينه وجنيسته وانت لا تحترم اي شخص يدول علي عدم فهم منك سؤ تصرف
ثالثا : كلام اللي بتقوله دل كلام هبل في قصه ماهر لان عندي تسجيل صوتي ليه ولبنته فيها كل الحقائق ببرهان وادله مش كلام وخلاص
خامسا : قاعد تتكلم عن الحريه والهدل وجيت في الدين بتشتم وتكلم عن النوايا عارف افتكرت ربنا بتعرف النوايا
ههههههههههههههههههه
سلام يا محترم
لماذا لم تنشر أحاديث ماهر وتسجيلاته الصوتية ورده للدفاع عن أكاذيب زوجته
إستمع لماهر يرد على أكاذيب زوجته وإبنته دينا تعلن بأنها غير مختطفة وتقول بالحرف الواحد (هي بعد اللى عملته في التلفزيون ده فاكراني ممكن ارجعلها)
http://www.copts.com/arabic/images/stories/videos/CNElgwharyndDina01.wmv
وإستمع لأحاديث أخرى مع ماهر يروي قصته كاملة
http://www.copts.com/arabic/images/stories/videos/CNElmo3tsemElgwhary01.wmv
http://www.copts.com/arabic/images/stories/videos/SOEMAG20080806.wmv
بلاش كذب وإفترا على الراجل
زمان كانت الأكاذيب تملأ الدنيا لعدم وجود إعلام صريح، أما الأن فلا فرصة أمامكم للكذب وعليكم الإعتراف بالحقائق
يا أستاذ سامح
انت كاتب في موضوعك انه علينا احترام القوانين التى تمنع التبشير حتى يتم تغييرها
وارسلت لك تعليقا اطلب منك كتابة مادة القانون التى تمنع التبشير في مصر
ولا ازال في الانتظار، فهل يمكن ان تضع لنا مادة القانون التى تمنع التبشير في مصر حتى نتوقف عن التبشير؟
لا اعتقد أنك كتبت في مدونتك كلاما متسرعا بدون ادلة، بالتأكيد معك الدليل وتعرف هذه المادة في القانون المصر
رجاء إطلاعنا عليها وشكرا
بالنسبة للأستاذ u.s.copts وسؤاله لنا عن عدم نشر أحاديث المدعو ماهر النصاب قأنت تعرف جيدا قبل الاحرون بأن هذا الرجل كاذب وشاذ جنسيا ونصاب حتي حديث ابته وكلامها فهو كلام يملا عليها استمع اخي الكريم الي حديث الطفلة جيدا حتي يتبين لك صحة كلامنا ونحن نعتذر لعدم نشر تلك الأكاذيب علي مدونتن فنحن لا ننشر الا الحقيقة فلقد تركنا لكم الكذب و الدفاع عن الشواذ و النصابين و القوادين فأنت و مايكل منير النصاب الكبير أولي بهم
يتضح لنا مدي خطورة وقوة المشروع التنصيري بمصر، والذي تقف الدولة أمامه عاجزة بل ومتواطئة أحيانا بينما استهان العلماء والدعاة بالتنصير لسخافة فكرته وعدم معقولية العقيدة النصرانية الأمر الذي أوجد اطمئنانًا لعدم انتشارها ، ونسوا أن المنصرين لا يرتكزون على العقل في دعوتهم بل يستندون على الحيل والإغراء واستغلال جهل المسلمين والاستعانة بالقوى السياسية الدولية المعادية الإسلام.
لا حول ولا قوة إلا بالله
يعنى إحنا نحط تسجيلات بصوته، كذابين
بنته تسجل بصوتها وتستنكر اللى قاله أمها، كذابين والبنت بتقول اللى مملى عليها
وإنت تصفه يالشذوذ والكذب والنفاق و... و... و... و... وبدون أدلة، وأنت الصادق وإحنا الكدابين
روح يا شيخ ربنا يهديك ويوقف في طريقك أولاد الحلال وينور قلبك
أنا بقول أن أنت ومايكلك تعلمون جيدا بمدي نوايا هذا البغل وكلامه لازم يكون كده لازم طبعا ينفي كلام زوجته يا حبيبي ولقد ذكرت بأن هذا البغل عنده من الأموال ما يكفيه فهل لك أن ترسل لنا ما يثبت ذلك كلمة اخيرة لك انت ومايكلك حنانيكم بمصر يا من لا تستحوا
نرجع ونقل تاني
لا حول ولا قوة إلا بالله
هو يعنى إنت اللى تعرف مراته علشان تقول صادقة؟
المشكلة هي في عقلكم، كل من يترك الإسلام فهو جبان وشاذ وأعطوه فلوس و... و... و... الخ عاملة زي إسطوانة الإمبريالة الصهيونية الأمريكية .... الخ
إحنا حطينا أدلة صوتية، ولو هو كذاب زي ما بتقول بنته كمان كذابة؟
بعدين بالنسبة للفلوس
الراجل سيرث من أمه بعد موتها 2 مليون دولار
أمه لم تمت بعد، ولو ترك الإسلام لا يرثها، لأن غير المسلم لا يرث المسلم
فلو كان يحتاج فلوس زي ما بتروجوا، كان فضل على إسلامه وكلها سنة ولا إتنين ويرث 2 مليون جنيه
فمعقوله يسيب 2 مليون جنيه؟
نيجي لنقطتك الأخيرة
مين قالك إني مش في مصر؟
كن متأكدا أني في مصر، وأن أكثر الكتابات التى ننشرها هي لأناس في مصر، وأن أكثر زيارة وأكثر تعليقات هي من مصر، وحتى منتدي المنظمة، 95% من الموجودين فيه هم في مصر
معلش ده شوية إعلام كاذب اللى بيقول لكم إن الناس دي مش في مصر وأن أقباط مصر لا تؤيدهم
أخيرا أدعولك بأن ربنا يهديك ويوقف في طريقك ولاد الحلال
قول أمين
:)
شوف يا أستاذ مجهول أنت موضوع الأدلة الصوتية الي انت بتستند اليها ده كلام عبيط و هو فعلا لو عاوز يدافع عن نقسه يرد علي كلام مراته بمستندات وأدلة زي مثلا يجيب لنا كشف لحسابه في البنك وكمان يكذب أدعاء أحوه عليه بالشذوذ يعني يروح كده زي الشاطر لدكتور ويجيب ما يثبت ان مفيش حد شربه حاجة صفرا وأمنه هو علي مؤخرته وده طبعا مش هيحصل لانه غير سوي وشاذ جنسيا بالضبط مثل أحمد أباظة الشاذ ويبدو ان كل المتنصرون من الشواذ وهو علي أمل بأن تعترف الكنيسة المصرية بالزواج من الشواز وبعدين يا محترم ده منظر واحد هيورث 2 مليون دولار ده شكله متسول و الله حتي أسلوب بنته أسلوب واحدة تربت في حواري وبعدين انت بتقول عقيلة ومش عقلية ومين قالك ان انا مسلم
بالنسبة للسيد الفاضل صاحب هذا
التعليق يا أستاذ سامح
انت كاتب في موضوعك انه علينا احترام القوانين التى تمنع التبشير حتى يتم تغييرها
وارسلت لك تعليقا اطلب منك كتابة مادة القانون التى تمنع التبشير في مصر
ولا ازال في الانتظار، فهل يمكن ان تضع لنا مادة القانون التى تمنع التبشير في مصر حتى نتوقف عن التبشير؟
لا اعتقد أنك كتبت في مدونتك كلاما متسرعا بدون ادلة، بالتأكيد معك الدليل وتعرف هذه المادة في القانون المصر
رجاء إطلاعنا عليها وشكرا
سيدي الفاضل كما أشرنا من قبل الي ان التبشير ليس بجريمة ولا بد ألا يكون جريمة في دولة متحضرة ولكن في ظل الأوضاع الراهنة وفي ظل وجود قوانين ضد التبشير يتعين علي الجميع مراعاة ذلك واحترام القانون إلي أن نصل قإنه فعلا يوجد قوانيين لا تسمح لاي مبشر بالعمل ألا من خلال منظمة حاصلة علي تصريح من الدولة لا بد من تصريح من الدولة سيدي الفاضل . تذكر معي سيدي الفاضل قصة القص الأجنبي الذي ذهب إالي توزيع منشورات تبشيرية داخل الجامع الأزهر مما أثار استياء المسلمين بل وثورة البعض واثارة المشاعر المعادية للأقباط . مش عاوزين البلد تولع يا جماعة وعلي رأي الأستاذ أمين المهدي بعد الحريق لا يأتي إلا الظلام وشكرا لك اخي الكريم وبرجاء الكشف عن شخصينك لاني حابب التعرف علي سيادتكم وشكرا.
الأستاذ سامح
شكرا على ردك لكنك لم تضع لي مادة القانون الذي لا يسمح بالتبشير
أنا لم أتحدث عن الثقافة الشعبية أو سلوك المواطنين أو البلد تولع
أنا أتحدث عن قانون لأنك ذكرت في موضوعك أن القوانين لا تسمح بالتبشير
المفاجأة يا أستاذ سامح أن القانون يسمح بالتبشير، ومصر موقعه على معاهدات تضمن حرية الدعوة لأي دين من الأديان
ولا يوجد أي مادة في القانون أو الدستور المصري يحظر التبشير
فهل حضرتك من المثقفين دعاة دولة القانون، وأن تقوم الدولة بفرض هيبتها على الثقافة البالية وتطبق القانون على جميع أبناء الوطن، أم أنك من دعاة الجلسات العرفية ومخالفة نصوص صريحة في القانون؟
أنا شخصيا مع سيادة القانون، ولو وجدت مادة واحدة في القانون تمنع أو تحظر التبشير سأحترمها، لكن طالما أن الدستور ينص على حرية العقيدة وحرية ممارستها، كما ينص على أن المواطنون سواء لا فرق بينهم بسبب اللون أو الجنس أو المعتقد، ومصر موقعه على أنه من حق كل إنسان الدعوة لعقيدته علانية، وكذلك لا يوجد مادة في القانون تجرم التبشير
لذلك فبصفتي مواطن مصري، لي كافة الحقوق لأي مواطن مصري وأؤدي كافة الواجبات التي يؤديها المواطن المصري، فمن حقي أن أبشر بعقيدتى
شكرا لسعة صدرك
لا يستطيع عاقل أن يقول: إن يوم النصرانية فى أوربا وأمريكا طيب، فالإلحاد شائع، والزنا والربا أشيع، والركض فى أودية الحياة ابتغاء المتاع العاجل هو السمة الظاهرة، وبدع الشباب المادية والأدبية لا حصر لها .
ولولا الحياء لغلقت تسعة أعشار الكنائس أبوابها .. من الفراغ .
أما فى ربوع العالم الإسلامى كله، والأقطار العربية خاصة، فالحال على العكس: النصرانية تنتعش والكنائس تكثر، وطوائف الشباب والشيوخ تتلاقى عليها، والأموال الدافقة تجىء من منابع شتى لتدعم الطوائف المسيحية وترجح كفتها فى ميادين العلم والإنتاج .
وأوربا وأمريكا من وراء هذا العون الواسع تخدمان به آمالها العريضة فى القضاء على الإسلام، وإعادته إلى الصحراء من حيث جاء !
ومن يدرى ؟ ربما قضيا عليه فى الصحراء نفسها، كذلك يؤملون ! ولذلك يفعلون !!
ومن ربع قرن وأنا ألاحق الهجوم الثقافى والسياسى على أمتنا وديننا .. والطلائع المؤمنة فى كل مكان تشتبك معه وتحاول صده .
غير أن النتائج إلى الآن لا تسر، لقد سقطت جماهير كبيرة من الدهماء، وأعداد وفيرة من المتعلمين فى براثن هذا الغزو المزدوج، وتاحت الفرص أمام الطوائف غير المسلمة، فأطلت برأسها تريد أن تشارك فى الإجهاز على الفريسة.
وفى مصر رأيت عملاً مريباً منظماً يكاد يعالن بأنه يريد وضع الطابع النصرانى على التراب الوطنى فى هذا الوادى المحروب .
ولا ريب فى أن قوى خارجية تكمن وراء هذا النشاط وتغذيه .. وفى هذه الصحائف نريد أن نواجه حرب المنشورات التى شنت بغتة على الشباب المسلم، مكتفين بدحض الشبهات، ورد المفتريات، عالمين أن هناك نصارى كثيرين يريدون العيش مع إخوانهم المسلمين فى سلام وتراحم، وأن محاولة البعض طعن الإسلام من الخلف هى تصرفات فردية يحمل وزرها أصحابها وحدهم .
ونحب قبل أن نبدأ النقاش فى هذه القضية الأساسية أن نسجل مسلكاً إسلامياً مقرراً: إن اختلاف الأديان لا يستلزم أبداً إيغار الصدور وتنافر الود، وأنه فى ظل مشاعر البر وقوانين العدالة يمكن لأتباع عقيدتين مختلفتين أن يعيشوا فى وئام وتراحم !!
والانسجام المنشود بين أولئك الأتباع لا يعنى بداهة أن الفروق بين عقائدهم تلاشت ..
وقد كان العرب الأولون يؤمنون بالله الواحد “ ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن: الله .. “ (العنكبوت: 61)
“ ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ليقولن: الله “ (العنكبوت: 63)
ولكنهم مع هذا الاعتراف بالله الواحد نسبوا إليه ولداً يقصدون إليه ويتشفعون به ! فرفض القرآن هذا النسب المختلق، وعد ذلك شركاً، وأنكره ـ فى سورة مريم ـ أشد الإنكار “ وقالوا اتخذ الرحمن ولداً .. لقد جئتم شيئاً إداً . تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً، أن دعوا للرحمن ولداً . وما ينبغى للرحمن أن يتخذ ولداً . إن كل من فى السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبداً .. “ (مريم: 88 ـ 93)
ومع هذا النكر الشديد لعقيدة التعدد فى الآلهة، فقد أمر الله صاحب الرسالة أن يقول للمشركين “ لكم دينكم ولى دين “ (الكافرون: 6)
إذن نستطيع أن نوجد تلاقياً ما بين أصحاب الأديان المختلفة، أما تذويب الفوارق بين التوحيد والتعدد كليهما، فذاك مستحيل ..
كتب بعض الناس كلاماً يريد عقد لقاء بين عقيدة التوحيد الإسلامية وعقيدة التثليث المسيحية، فنفى أن يكون الله ثالث ثلاثة ـ كما ذكر القرآن الكريم ـ وقال إن الله الواحد هو جملة الأقانيم الثلاثة .
ولما كان كل أقنوم ـ على حدة ـ يسمى إلهاً، فإن الكاتب أراد أن يوضح هذا الغموض، ولا نقول يكشف هذا التناقض !! فقال ـ والكلام منقول عن مجلة توزع على طلاب كلية الهندسة بجامعة القاهرة ـ نثبته هنا بنصه:
“ إذن كيف نوفق بين هذا وذاك ؟ بين ثلاثة ثم واحد ؟ ..
“ إن هذا هو بيت القصيد وفحوى الحديث ! وسوف أذكر مثالاً .. ماذا تعرف عن الشمس، الشمس الواحدة ؟ أعرف أنها قرص، وحرارة، وأشعة .. وأى شىء من هذه الثلاثة هو الشمس ؟ هل القرص، أم الحرارة، أو الأشعة ثلاثتهم يكونون الشمس ! إذن الشمس واحدة، وهكذا الله سبحانه واحد، مع فارق التشبيه العظيم من حيث المكانة .. “ .
ونقف قليلاً لنذكر رأينا فى هذا الكلام، إن الكائن الواحد قد تكون له عدة صفات، قد يكون طويل القامة أسمر اللون ذكى العقل .. ويمكن أن تنسب إليك صفات أخرى، فهل قلة الصفات أو كثرة الصفات تعنى تعدداً فى الذات ؟ وهل يجوز أن يطلق شخصك نفسه على صفة الطول أو السمرة أو الذكاء ؟ وهل يتصور أن تنفصل إحدى الصفات المذكورة ليطلق عليها الرصاص، أو تتدلى من حبل المشنقة أو تسمر على خشبة الصليب ؟
إن الشمس واحدة، ولكن استدارتها وحرارتها وإضاءتها وكثافتها .. إلخ صفات لها، أعراض لذاتها، والصفة لا تسمى ابناً ولا خالاً ولا عماً، ونحن نثبت للإله الواحد عشرات الأوصاف الجليلة، بيد أن إثبات الأوصاف شىء بعيد كل البعد عن القول بأن الأب هو الابن وهو الصديق، وأن خالق الكون هو هو الذى صلب على خشبة فى أرضه .
إن التمثيل بالشمس وأوصافها الكثيرة لا يخدم قضية التثليث ولا التربيع فى ذات الله .. والأمر لا يعدو لوناً من اللعب الألفاظ .
إن الله ـ خالق هذا العالم ـ واحد، وما عداه عين له أوجده من الصفر، ولن تنفك صفة العبودية عن أى موجود آخر، سواء كان “ عيسى “ أو “ موسى “ أو “ محمد “ أو غيرهم من أهل الأرض والسماء .
ونريد أن نسأل هذا: إذا كانت الشمس هى القرص والحرارة والأشعة فهل يمكن القول بأن الحرارة مثلاً ثلث الشمس ؟
لا يقول هذا عاقل، لأن الصفة لا تكون قسيماً للذات بتاتاً، هل يمكن القول بأن القرص شكا للأشعة ما نزل به من بلاء مثلاً !
ذاك ما لا يتصوره ذو لب .. !!
إن هذا الكلام ـ كما قلت ـ لون من اللعب بالألفاظ، ولا يصور العلاقة بين أفراد الأقانيم الثلاثة كما رسمتها الأناجيل المقدسة ..
وذكرت المجلة التى توزع على الطلاب “ بكلية الهندسة “ دليلاً آخر على أن التثليث هو التوحيد . قال الكاتب:
“ أقول لك أيضاً عن إنسان اسمه إبراهيم ـ إبراهيم هذا فى بيته ووسط أولاده يدعى رباً لأسرته وينادونه “ يا أبانا يا إبراهيم “، هذا ذهب يوماً إلى البحر، فإذا الجموع محتشدة وإنسان يغرق وليس من ينقذه، فما كان منه إلا أن خلع ملابسه، وارتدى لباس البحر وأسرع وأنقذ الغريق، فهتف المتجمهرون: ليحيا المنقذ إبراهيم ..
“ ذهب بعد ذلك إلى عمله، وإذ كان يعمل بالتدريس ويشرح للتلاميذ وصاروا ينادونه: المعلم إبراهيم . فأيهم إبراهيم: الأب أم المنقذ أم المعلم ؟ ..
“ كلهم إبراهيم وإن اختلفت الألقاب مع الوظائف، وهكذا أيضاً الله خلق فهو الأب الله، الله أنقذ فهو الابن، الله يعلم فهو الروح “ !!
نقول: هذا الكلام أوغل من سابقه فى خداع النظر، فإن الضابط قد يرتدى فى الجيش ملابسه العسكرية، وقد يرتدى فى عطلته الملابس المدنية، وقد يرتدى فى بيته ملابس النوم . ولم يقل مجنون ولا عاقل أن هؤلاء ثلاثة، وأنهم واحد، ولا يتصور أحد أن الضابط بزيه العسكرى يصدر حكماً بالإعدام على الضابط نفسه بزيه المدنى، وأن هذا المدنى يقول للعسكرى: لماذا قتلتنى أو لماذا تركتنى .
إن المعلم إبراهيم أو المنقذ إبراهيم أو الخالق إبراهيم يستحيل أن يكونوا ثلاثة أقانيم على النحو المألوف فى المسيحية، وإنما المعقول أن يقال: الله الواحد يوصف بالقدرة والعلم والرحمة والحكمة مثلاً، وهذا يذكره الإسلام فالله ذات واحدة، لا تقبل التعدد بتة، والروح القدس وهو جبريل عبد مخلوق له، والمعلم المرشد الصالح عيسى عبد مخلوق له، وما دام العقل البشرى موجوداً فلن يسيغ إلا هذا .. أما الفرار من التناقض الحتم إلى التلاعب بالألفاظ فلا جدوى منه .
وإذا كان خالق السماء هو هو المقتول على الصليب فمن كان يدير العالم بعدما قتل خالقه ؟ بل كيف يبقى العالم بعد أن ذهب موجده ؟ والعالم إنما يبقى لأنه يستمد وجوده لحظة بعد أخرى من الحى القيوم جل جلاله .
إن القرآن الكريم ينصح أصحاب عقيدة التثليث فيقول لهم: “ يا أهل الكتاب لا تغلوا فى دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق، إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة، انتهوا خيراً لكم، إنما الله إله واحد سبحانه أنى يكون له ولد، له ما فى السموات وما فى الأرض وكفى بالله وكيلاً . لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون .. “ (النساء: 171، 172)
وإنه ليسرنا أن تكون عقيدة التوحيد محور العلاقة بين الناس جميعاً وبين الله الواحد الأحد، لكن من المضحك المبكى أن يحاول البعض التشبث بالثالوث وبألوهية كل فرد من أفراده ثم يزعم بطريقة ما أن الثلاثة هم فى الحقيقة واحد .
قيل فى باب الفكاهة أن رجلاً جلس على قهوة ثم طلب “ ينسوناً “ وقبل أن يتناوله تركه وطلب بدله “ شاياً “ شربه ثم قام لينصرف .. فلما طولب بثمن الشاى الذى شربه قال: إنه بدل الينسون، فلما طولب بثمن الينسون قال: وهل شربته حتى أدفع ثمنه ؟!
ويظهر أن هذا الاستدلال الفكاهى انتقل من ميدان المشروبات إلى ميدان العقائد، ليطمس الحقيقة ويسيغ المتناقضات ..
وقصة ثالثة تنشرها المجلة المعلقة بكلية الهندسة ـ جامعة القاهرة هى عجيبة العجائب نثبتها
هنا ـ على طولها ـ بعد النقلين الموجزين السابقين !!
عنوان القصة: “ أنت تعبان والله مرتاح .. “ !!
والعنوان المذكور يحكى إجابة طريفة عن سبب الصلب .
والسؤال التقليدى فى هذا الموضوع: لماذا قتل الإله الآب الإله الابن ؟!
والجواب المعروف لدى إخواننا المسيحيين هو: الفداء لخطايا الخليقة .
لكن الكاتب الذكى ـ تمشياً منه مع أن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد ـ جعل القصة تدور حول هذا السؤال: لماذا قتل الإله نفسه ؟ ولنذكر القصة برمتها:
“ انتهت الحياة، وتزاحم الملايين من البشر فى واد كبير أمام عرش الله، وكانت المقدمة من جماعات تتكلم بامتثال شديد دون خوف أو خجل، ولكن بطريقة عدوانية، حتى تقدمت الصفوف فتاة تصرخ: كيف يستطيع الله أن يحاكمنى ؟! وماذا يعرف هو عن الآلام التى عانيتها ؟! ..
“ قالت هذا وهى تكشف عن رقم على ذراعها مدموغ بالحرق فى أحد معسكرات التعذيب والإبادة النازية، ثم أردفت: لقد تحملت الضرب والتعذيب بل والقتل أيضاً ..
“ وعلا صوت هادر من مجموعة أخرى قائلاً: وما رأيكم فى هذا . وعلى أثر ذلك أزاح صاحب الصوت ـ وهو زنجى ـ ياقة قميصه كاشفاً عن أثر بشع لحبل حول عنقه وصاح من جديد: شنقت لا لسبب إلا أنى أسود .. لقد وضعنا كالحيوانات فى سفن العبيد، بعد انتزاعنا من وسط أحبائنا، واستعبدنا، حتى حررنا الموت ..
“ وعلى امتداد البعد كنت ترى المئات من أمثال هذه المجموعات، كل منها له دعوى ضد الله: بسبب الشر والعذاب اللذين سمح بهما فى عالمه . كم هو مرفه هذا الإله ! فهو يعيش فى السماء حيث كل شىء مغلف بالجمال والنور، لا بكاء ولا أنين، لا خوف ولا جوع ولا كراهية، فماذا يعرف هو عما أصاب الإنسان وتحمله مكرهاً فى هذا العالم ؟ ..
“ حقاً، إن الله يحيا حياة ناعمة هانئة لا تعرف الألم ..
“ وهكذا خرج من كل مجموعة قائد، كل مؤهلاته أنه أكثر من قاسى وتألم فى الحياة، فكان منهم يهودى وزنجى وهندى ومنبوذ وطفل غير شرعى، وواحد من هيروشيما وآخر عبد من معسكرات المنفى والسخرة ..
“ هؤلاء جميعاً اجتمعوا معاً يتشاورون، وبعد مدة كانوا على استعداد لرفع دعواهم، وكان جوهرها بسيطاً جداً، قبل أن يصبح الله أهلاً لمحاكمتهم، عليه أن يذوق ما ذاقوا !! ..
“ وكان قرارهم الحكم على الله أن يعيش على الأرض كإنسان، ولأنه إله، وضعوا شروطاً تضمن أنه لن يستخدم قوته الإلهية ليساعد نفسه، وكانت شروطهم:
“ ينبغى أن يولد فى شعب مستعمر ذليل ..
“ ليكن مشكوكاً فى شرعية ميلاده، فلا يعرف له أب، وكأنه وليد سفاح ..
“ ليكن صاحب قضية عادلة حقيقية، لكنها متطرفة جداً حتى تجلب عليه الكراهية والحقد والإدانة بل والطرد أيضاً من كل سلطاته الرئيسية التقليدية، ليحاول أن يصف للناس ما لم يره إنسان أو يسمع به، ولا لمسته يداه، ليحاول أن يعرف الإنسان بالله ..
“ ليجعل أعز وأقرب أصدقائه يخونه ويخدعه، ويسلمه لمن يطلبونه، ليجعله يدان بتهم كاذبة، ويحاكم أمام محكمة متحيزة غير عادلة، ويحكم عليه قاض جبان ..
“ ليذق ما معنى أن يكون وحيداً تماماً بلا رفيق فى وسط أهله، منبوذاً من كل أحبائه، كل الأحباء ..
“ ليتعذب ليموت .. نعم يموت ميتة بشعة محتقرة مع أدنى اللصوص ..
“ كان كل قائد يتلو الجزء الذى اقترحه فى هذه الشروط، وكانت همهمات الموافقة والاستحسان تعلو .. ولكن ما أن انتهى آخرهم من نطلق الحكم حتى ساد الوادى صمت رهيب وطويل، ولم يتكلم إنسان أو يتحرك ..
“ فقد اكتشفوا جميعاً ـ فجأة ـ أن الله قد نفذ فيه هذا الحكم فعلاً .. لكنه أخلى نفسه، آخذاً صورة عبد، صائراً فى شبه الناس، وإذ وجد فى الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت .. موت الصليب .. “ .
ولنا بعد هذه المطالعة المفيدة عن سر “ الانتحار الإلهى “ أن نسأل:
أ ـ هل كان العبيد الثائرون يعرفون أن الله عديم الإحساس بآلامهم المبرحة، فأحبوا أن يشعر شخصياً بمرارتها حتى يرق لحالهم، وبذلك حكموا بقتله ؟
ب ـ هل انقطعت هذه الآلام بعد الصلب أم بقيت تتجدد على اختلاف الزمان والمكان ؟ وبذلك لم تؤد قصة الصلب المنشود منها، فينبغى أن تكرر ؟
جـ ـ ما هى درجة السلطة التى يمتلكها هذا الإله فى العالم ؟ وهل هى من الهوان بحيث تسمح لثورة بيضاء أو حمراء أن تنفجر مطالبة بشنقه أو صلبه ؟ وهل يحمل هذا الإله مسئولية المآسى العالمية ؟!
د ـ وإذا كان الصلب لفداء الخطايا، فهل هذا الفداء يتناول صانعى الشرور والآثام والمظالم أم يتجاوزهم ؟ أم هو لتصبر الضحايا على ما ينزل بها ؟
ونحن لا نريد إجابات على هذه الأسئلة، فعقيدتنا نحن المسلمين أن الله العظيم فوق هذه التصورات الهازلة .
إن هذا الكلام الذى قرأنا من أسوأ وأغرب ما وصف به الله، وما كنا نحن نتصور أن يصل الإسفاف فى الحديث عن الله جل جلاله إلى هذا الدرك المعيب، ولكن صاحب الفم الذهبى ـ لا فض فوه ـ يأبى إلا أن يستغل مهارته الصحافية فى تسطير هذا اللغو ونشره بين الطلاب المسلمين، لأنه يعتقد أن القرآن يقبل التعاليم المسيحية وأن التوحيد ينسجم مع التثليث .
وقد كتب فى رمضان الأسبق مقالاً فى مجلة الهلال يحاول فيه إثبات هذا الهراء، ويريد به أن يختل المسلمين عن توحيدهم وسلامة معتقدهم .
وكم نود أن نقول لهذا الكاتب ومن وراءه من الحاقدين على الإسلام: “ يا أهل الكتاب لا تغلوا فى دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل “ (المائدة: 77)
وأعود إلى ما بدأت به هذا الحديث: إن أتباع الأديان المختلفة يستطيعون أن يعيشوا أصدقاء، والوحدة القومية بين العرب المسلمين والنصارى موضح احترام الجميع .
لكن الانسياق مع التعصب الأمريكى ضد الإسلام يجب أن يختفى فوراً . إن كل محاولة لإهانة الإسلام وإحراج أهله لا يمكن أن تكون موضع احترام، والمال الأمريكى المبذول فى هذا السبيل يجب أن يذهب هدراً .
حول صلب عيسى
لا أعرف قضية طال فيها اللجاج دون سبب يعقل مثل قضية الصلب والفداء، ولعلها أصدق شاهد يساق لقوله تعالى: “ وكان الإنسان أكثر شىء جدلاً “ . ولا أزال أذكر حكاية القسيس الألمانى الذى زارنى يوماً فى مكتبى، وشاء له سوء حظه أن يحدثنى فيها، فقلت له ضاحكاً: أترى هذا الثوب الأبيض الذى ألبسه ؟ أرأيت إذا وقعت عليه نقطة حبر أتزول إذا غسلت أنت ثوبك ؟ قال: لا . قلت: فلم يزول خطئى إذا اعتذر عنه آخر ؟
عندما ألوث نفسى بخطأ دق أو جل، فأنا المسئول عنه، أغسل أنا نفسى منه، أشعر أنا بالندم عليه، أقوم أنا من عثرتى إذا وقعت، ثم أعود أنا إلى الله لأعترف له بسوء تصرفى وأطلب أنا منه الصفح .
أما أن العالم يخطئ فيقتل الله ابنه كفارة للخطأ الواقع فهذا ما يضرب الإنسان كفاً بكف لتصوره !!
هذا أول الأسطورة، أما آخرها فلا بد أن نعرف: من القاتل ومن القتيل ؟؟
إن المسيحيين يقولون: إن الله “ الابن “ صلب، لكنهم يقولون كذلك: إن الآب هو الابن، هما ـ والروح القدس ـ جميعاً شىء واحد .
إن كان الأمر كذلك فالقاتل هو القتيل !! وذاك سر ما قاله أحد الفرنجة المفكرين:
“ خلاصة المسيحية أن الله قتل الله لإرضاء الله !! “
ولمن شاء أن يقنع نفسه بهذه النقائض، وأن يفنى عمره فى خدمتها، أما أن يجىء إلينا نحن المسلمين ليلوينا بالختل أو بالعنف عن عقيدتنا الواضحة ويحاول الطعن فيها فهذه هى السماجة القصوى .
وبين يدى الآن نحو عشر نشرات وزعت خارج الكنائس للدعوة إلى أسطورة الفداء، قرأتها كلها وشعرت بالرثاء لكاتبيها .
وكما يحاول قروى ساذج إقناع العلماء أن القنبلة الذرية مصنوعة من كيزان الذرة يحاول هؤلاء “ المبشرون “ العميان إقناعنا بأنهم على حق .
المنشورات وما تضمنت من أوهام
اقرأ معى هذه السطور الصادرة عن كنيسة “ مار مرقص “ بمصر الجديدة، يقول الكاتب: “ ربما لم أقابلك شخصياً لكن هناك شيئاً يجب أن أقوله لك، إنه أمر فى غاية الأهمية حتى أننى سأكون مقصراً إن لم أخبرك به “ .
حسناً، هات ما عندك، ولا تكن من المقصرين !!
يقول الكاتب: “ دعنى أخبرك بإخلاص أنها رسالة شخصية لك، لا يمكنك أن تهرب منها، وهذه هى الرسالة من إنجيل يوحنا (3: 16):
“ لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل “ ابنه “ الوحيد لكى لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية “ .
هذا هو الخبر الخطير ! تمخض الجبل فولد فأراً !!
لماذا يقتل الله ابنه الوحيد البرىء من أجل ذنوب الآخرين ؟
وإذا كان الإله رب أسرة كبيرة فلم يقتل أبناءه كلهم أو جلهم من غير جريرة ؟
أليس الأعقل والأعدل أن يقول هذا الإله للمذنبين:
تطهروا من أخطائكم وتوبوا إلىّ أقبلكم ؟!
ولا قتل هناك ولا لف ولا دوران ؟
هكذا فعل الإسلام وأرسى قواعد العلاقة الصحيحة بين الله وعباده “ ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً “ (النساء: 110)
أما قصة أن لله ولداً وحيداً أو غير وحيد فكذب صارخ . إن الولادة شىء يتوقع بين بعض الأحياء، ولا مكان لهذه المفاهيم عند تصور الألوهية “ وقل الحمد لله الذى لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك فى الملك، ولم يكن له ولى من الذل وكبره تكبيراً “ (الإسراء: 111)
“ يا ربى لك الحمد كما ينبغى لجلال وجهك وعظيم سلطانك “ .
وهاك سطوراً من نشرة أخرى تحت عنوان “ حقائق مخفية “ بدأها كاتبها قائلاً: “ حقائق أنت أحوج إلى إدراكها من الهواء الذى تتنفسه “ !!
شىء مدهش، ما هذه الحقائق التى نفتقر إليها على هذا النحو ولم نشعر بفقدانها من زمن بعيد ؟
يقول الكاتب: “ تعال إلى الرب يسوع الآن كما أنت، لا تسع فى إصلاح نفسك (!) لأنه هو يستطيع أن يخلق منك شخصاً جديداً طاهراً “ ولكن لماذا لا أسعى فى تزكية نفسى ورفع مستواى المادى والمعنوى ؟
يقول كاتب النشرة: “ احذر أن يكون مثلك مثل المتسول مع الرسام ..
“ ذلك أن رساماً أراد أن يرسم رجلاً فى منتهى الذل والمسكنة، فرأى متسولاً يتعثر فى أسمال بالية، فطلب منه أن يحضر فى ميعاد عينه له، على أن يعطيه أجراً .. لكن ذلك المتسول خجل من أسماله البالية فاستعار لباساً يدفع به عن نفسه الخجل، ثم أتى إلى الرسام فى الميعاد، فلما نظر إليه الرسام قال: إنى لا أعرفك . فأجاب الرجل: ألا تذكر شحاذاً فقيراً اتفقت معه على أن يجيئك فى هذا الميعاد . قال: إنى لا أذكر إلا رجلاً فى أسمال بالية أما أنت فلا أذكرك ..
“ إن الرب ـ يعنى يسوعاً ـ يطلبك فى حالتك السيئة، وما عليك إلا أن تعترف بكل الشرور التى أنت مستعبد لها، وتقبله مخلصاً شخصياً لك، إذا فعلت ذلك فإن حمل خطاياك ينطرح عن ظهرك “ .
ونحن المسلمون نقرأ هذا الكلام ونستغرب أن ننقل صفات الله إلى شخص آخر .. إننا مكلفون ـ كسائر البشر ـ بتزكية أنفسنا وصقلها وتربيتها “ ونفس وما سواها . فألهمها فجورها وتقواها . قد أفلح من زكاها . وقد خاب من دساها “ .
فإذا أخطأ أحدنا، ذهب إلى ربه يستغفره ويستهديه ويستعينه على العودة إلى الصواب “ وهو الذى يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله “ (الشورى: 25، 26)
ما دخل آدم أو عيسى أو محمد فى ذلك، إنهم كلهم بشر يحتاجون إلى المغفرة، ويطلبون من ربهم النجدة .
ولكى يحس القارئ بما حوت هذه النشرة من خلط ننقل هذه العبارة من كلامه: “ هب أنه طلب منك أن تشترك فى جريمة صلب ربك، وأن تقل مع من هزءوا به، أكنت ترضى ؟ يقيناً لا .. ولكنك ما دمت لم تختبر قوة صلب المسيح فى خلاص نفسك من الخطيئة، فإنك بخطاياك تشترك فى جريمة صلب ربك “ !
هذا الهراء هو الذى نحتاج إليه كما نحتاج إلى الهواء الذى نتنفسه ..
عبيد يستطيعون صلب ربهم، ومع ذلك يطلبون منه المغفرة والرضا .. هلا طلبوا ذلك من الله الذى طلب منه المسيح نفسه النجاة، وعاتبه أن تركه للأعداء كما يقولون !!
وهاك نشرة أخرى تحت عنوان “ متجدد أم متدين “ ؟ بدأت بهذه الكلمات: “ الوردة الطبيعية جميلة الشكل زكية الرائحة، فيها حياة . والوردة الصناعية جميلة الشكل عديمة الرائحة ليس فيها حياة . إن الوردة الطبيعية تمثل المتجدد، أما الوردة الصناعية فتشبه أولئك الذين قال عنهم بولس: “ لهم صورة التقوى ولكنهم ينكرون قوتها “ .
ولا أفهم بالضبط ما يعنى بولس، أيقصد المرائين ؟ ربما .. المهم أن كاتب النشرة يختمها بهذه العبارات “ دعنى أسألك أيها العزيز: هل أنت متجدد أم متدين . إذا كنت قد حصلت على الولادة من فوق فطوبى لك، أثبت إذن فى المسيح .. أما إذا كنت متديناً فأسرع بتسليم حياتك الآن للمسيح .. فتنال الحياة الجديدة التى حصلت عليها المرأة الخاطئة حين غسلت قدمى الرب يسوع بدموعها ومسحتها بشعر رأسها، والتى قال لها الرب: مغفورة لك خطاياك، إيمانك قد خلصك “ .
هذه النشرة من مثيلاتها مصرة على تسمية المسيح الرب، ووصفه بأنه الغفار .
ونحن نقبل المسيح مبلغاً عن الله كإخوانه الأنبياء لا يزيد ولا ينقص ونقتدى به وبهم جميعاً فى التقرب إلى الله بالعمل الصالح .
والتدين يهب لنا حياة عقلية ووجدانية راقية، أما التجديد الذى تتحدث عنه النشرة فضرب من الهوس يستهوى الصبية، ومن يحسبون الدين أوهاماً وتهاويل “ وجعلوا له من عباده جزءاً، إن الإنسان لكفور مبين “ [الزخرف: 15]
التجديد ليس أن تعجن الخالق والمخلوق فى أقنوم مائع، ثم تلف حوله حارقاً البخور، نافخاً فى المزمور، كلا، إن التجديد أولاً وآخراً عقل يرفض الخرافة، وقلب يتعشق الكمال ويتطلبه ..
وهذا منشور آخر من “ لبنان “ يدور كذلك حول يسوع المصلوب غفار الذنوب يقول كاتبه: “ أيها الأخ العزيز خطاياك موضوعة على يسوع لتنال سلاماً مع الله وتشفى نفسك من جروحها . إن تقدمت إلى المصلوب المحبوب وسلمته خطاياك تختبر أن دمه يطهرك من كل إثم حتى ولو كنت قاتلاً أو متعصباً أو حالفاً بالله كذباً، ومهما كانت خطاياك كبيرة أو صغيرة فإن المسيح هو يغفرها جميعاً “ !!!
ويجاوبه منشور آخر من القاهرة يرد فيه هذا التساؤل: “ لكنك تقول توجد آراء كثيرة فكيف أعرف من هو على حق ؟ ..
“ كل من يرشدك إلى المسيح قارب النجاة فهو على حق، وكل من يبقيك فى السفينة العتيقة ـ المشرفة على الغرق ـ يخدعك ويضلك، هل أنت مجتهد بشتى الوسائل فى إصلاح السفينة العتيقة، أى طبيعتك البشرية الساقطة ؟ اعلم أنك إذن إذا استمررت على هذه الحال فلا بد أن تغطس إن عاجلاً وإن آجلاً .. “ .
أى أن كل تهذيب وتأديب منتهيان بصاحبهما حتماً إلى الغرق، ما لم يعتقد أن المسيح صلب من أجله، وأنه هو وحده فداء خطاياه .. !!!
مهما أتيت ربك بقلب سليم بل لو أتيته بضمير فى طهر السحاب وضياء الشروق فلا وزن لهذا كله، ما لم تؤمن أن عيسى قتل من أجل أن يفتدى خطاياك، ويخلصك من ذنوبك ؟!!
هذه هى خلاصة المنشورات التى حررها بنفسه أو أشرف على تحريرها صاحب الفم الذهبى رئيس إخواننا الأقباط، وعمل على توزيعها فى أوسع نطاق ..
“ وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شىء، إنهم لكاذبون، وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون “ (العنكبوت: 12، 13)
الإسلام أقوى بكثير من هذه التفاهات
إننا معشر المسلمين نحب عيسى ونوقره ونعد أنفسنا أتباعه، ونرفض بغضب كل ريبة توجه إليه أو إلى السيدة البتول أمه، بل نحن أولى بعيسى من أولئك الذين ينتمون إليه ويغالون فيه .
وليس خلافنا مع النصارى أنه قتل أو لم يقتل، الخلاف أعمق من ذلك .. الخلاف: أهو “ إنسان “ كما نقول أو “ إله “ كما يزعمون ؟
أكل امرىء بما كسب رهين ؟ أم أن هناك قرباناً قدمه الله من نفسه لمحو خطايا البشر ؟
هم يرون أن الله فى السماء ترك ابنه الوحيد على خشبة الصليب ليكون ذلك القربان ..
ونتساءل: أكان عيسى يجهل ذلك عندما قال: إلهى لماذا تركتنى ؟
وثم سؤال أخطر: هل المنادى المستغيث فى الأرض هو هو المنادى المستغاث به فى السماء، لأن الأب والابن شىء واحد كما يزعمون ؟؟
هذا كلام له خبئ معناه: ليست لنا عقول !!
الحق أن هذه العقيدة النصرانية يستحيل أن تفهم .
قرأت مقالاً للدكتور “ ميشيل فرح “ فى جريدة “ لميساجى “ الصادرة فى القاهرة
فى 16 / 9 / 1973 م يشرح هذه العقيدة بطريقة عقلانية قال: “ الكتاب المقدس ينبئ أن الله سوف يظهر نفسه، أى أن الكلمة المجردة ستأخذ جسداً ولحماً (!) وهذا هو الحدث الجديد . عمانوئيل . الله معنا . الله يصبح بشرى سارة، الله يعلن ويخبر . وهذا الظهور أساس كل شىء . هو الرد على سؤال توفيق الحكيم فى قصته المشهورة “ أرنى الله “ . ها هو الله . شىء ما حدث وحصل ووقع وتأنس “ .
هذا الكلام المبهم المضطرب الذى لا يعطى معنى هو التفسير العقلانى للعقيدة المسيحية !
رب المشارق والمغارب ظهر فى إهاب “ بشر “ ليراه الناس، ثم من فرط رحمته بهم “ ينتحر “ من أجلهم !
من يكلفنى بهضم هذا القول ؟
هل أعتنق هذا وأترك القرآن الذى يقرر العقيدة على هذا النحو: “ قل لمن ما فى السموات والأرض، قل لله، كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه .. الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون “ (الأنعام: 12)
“ ألا إن لله من فى السموات ومن فى الأرض وما يتبع الذين من دون الله شركاء .. إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون.. هو الذى جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً . إن فى ذلك لآيات لقوم يسمعون . قالوا: اتخذ الله ولداً سبحانه هو الغنى له ما فى السموات وما فى الأرض . إن عندكم من سلطان بهذا . أتقولون على الله ما لا تعلمون قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون “ (يونس: 66 ـ 69)
هكذا خاصم الإسلام الخرافة وأعلن إباءه التام للون مقنع من الشرك، وسد الطريق فى وجه القرابين الوثنية وهى تتسلل فى خبث لتطمس معالم التوحيد .
لم كرمنا الله بالعقل إذا كان مفروضاً أن نطرحه ظهرياً عندما نختار أهم شىء فى الحياة وهو الإيمان والسلوك ؟!
إن العقل يجزم بأن عيسى بشر وحسب، ويرفض أن يكون “ إلهاً “ ابناً مع “ إله “ مع “ إله “ آخر روح قدس، وثلاثتهم واحد مع تعددهم، وتعددهم حتم، لأن أحدهم ترك الآخر يصلب ..
هذا كلام يدخل فى باب الألغاز، ولا مجال له فى عالم الحق والتربية ..
ومع ذلك فنحن المسلمين نقول لمن يصدقه: عش به ما شئت “ لا إكراه فى الدين “ (البقرة: 256) فهل الرد على هذا المنطق إثارة كل هذا الدخان فى آفاقنا، ومحاولة ختل الشباب ونشر الفتنة ؟
قصة “ الله محبة “ وموقف شتى الأناجيل منها
وقال لى أحدهم وهو يحاورنى: إننا نرى أن الله محبة !! على عكس ما ترون .. فأجبت ساخراً، كأننا نرى الله كراهية ؟!! إن الله مصدر كل رحمة وبر، وكل نعمة وخير .. وصحيح أننا نصفه بالسخط على الفجار والظلمة، والأمر فى ذلك كما قال جل شأنه “ ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين “ أفليس الأمر كذلك لديكم ؟ إنكم تخدعون العالمين بذكر هذه الكلمة وحدها ووضع ستائر كثيفة على ما عداها من كلمات تصف الجبروت الإلهى بأشد مما ورد فى الإسلام، بل إن تعامل بعضكم مع البعض، وتعاملكم جميعاً مع الخصوم لا يقول إلا على هذه الكلمات الأخرى التى تخفونها، وما أكثرها لديكم .
قال “ ايتين دينيه “ المستشرق المسلم: “ بيد أن المسيح نفسه ـ وهو سيدنا وسيد المسيحيين ـ يعلن: “ ولا تظنوا أنى جئت أنشر السلام على الأرض، إننى لم آت أحمل السلام وإنما السيف “ (متى:الاصحاح العاشر:34) ..
“ ويقول السيد المسيح: “ إننى جئت لألقى النار على الأرض، وماذا أريد من ذلك إلا اشتعالها “
(لوقا: الاصحاح الثانى عشر، 49) ..
“ ويقول السيد المسيح: “ إذ إنى جئت لأفرق بين الولد وأبيه، والبنت وأمها، وبين زوجة الابن وأمه “ (متى: الاصحاح العاشر: 35) ..
“ ويقول السيد المسيح: “ إن كان أحد يأتى ولا يبغض أباه وأمه، وامرأته وأولاده، وإخوته وأخواته، حتى نفسه أيضاً فلا يقدر أن يكون لى تلميذاً “ (لوقا: الاصحاح الرابع عشر: 26) ..
“ أين من هذا ما جاء به النبى العربى الكريم من سلام حقيقى وحب كامل بين الأخ وأخيه، وبين الزوجة وزوجها، وبين الأب وولده، وبين الأم وفلذة كبدها، وبين الجار وجاره مسلماً كان أو غير مسلم، وبين الأرحام والأقرباء، وبين المشتركين فى الإنسانية الذين يتوفر لديهم مدلول الإنسانية فى بنى الإنسان “ .
إننا ـ نحن المسلمين ـ نتقرب إلى الله عز وجل برحمة الناس وغير الناس والبذل من مالنا وجهدنا ووقتنا فى سبيل نفعهم، ولنا على كل شىء من ذلك أجر فى ميزان الله الذى لا يختل عنده ميزان .
وما أصدقها شهادة تلك التى بعث بها البطريرك (النسطورى الثالث) إلى البطريرك “ سمعان “ زميله فى المجمع بعد ظهور الإسلام حيث قال فى كتابه: “ إن العرب الذين منحهم الرب سلطة العالم وقيادة الأرض أصبحوا معنا، ومع ذلك نراهم لا يعرضون النصرانية بسوء، فهم يساعدوننا ويشجعوننا على الاحتفاظ بمعتقداتنا، وإنهم ليجلون الرهبان والقسيسين، ويعاونون بالمال الكنائس والأديرة “ .
وما أصدق ما يقوله المؤرخ العالمى (هـ . ج . ويلز) فى كتابه: “ معالم تاريخ الإنسانية “ لقد تم فى
“ 125 عاماً أن نشر الإسلام لواءه من نهر السند إلى المحيط الأطلسى وأسبانيا، ومن حدود الصين إلى مصر العليا ولقد ساد الإسلام لأنه كان خير نظام اجتماعى وسياسى استطاعت الأيام تقديمه، وهو قد انتشر لأنه كان يجد فى كل مكان شعوباً بليدة سياسياً: تسلب وتظلم وتخوف، ولا تعلم ولا تنظم، كذلك وجدت حكومات أنانية سقيمة لا اتصال بينها وبين أى شعب . فكان الإسلام أوسع وأحدث وأنظف فكرة سياسية اتخذت سعة النشاط الفعلى فى العالم حتى ذلك اليوم، وكان يهب بنى الإنسان نظاماً أفضل من أى نظام آخر “ .
تجليات العذراء، الرمح المقدس، الحقيقة العلمية المطاردة
تقتعد خوارق العادات المكانة الأولى فى الأديان البدائية، وكلما وَهى الأساس العقلى لدين ما زاد اعتماده على هذه الخوارق، وجمع منها الكثير لكهنته وأتباعه .
والمسيحية من الأديان التى تعول فى بقائها وانتشارها على عجائب الشفاء، وآثار القوى الخفية الغيبية.
وبين يدى الآن نشرة صغيرة، على أحد وجهيها صورة العذراء وهى تقطر وداعة ولطفاً، وعلى ذراعها الطفل الإله يسوع يمثل البراءة والرقة . أما الوجه الآخر للصورة فقد تضمن هذا الخبر تحت عنوان “ محبة الآخرين وخدمتهم “، وتحته هذه الجملة “ حسبما لنا فرصة فلنعمل الخير للجميع “ (غل 6: 10) “ كانت السيدة زهرة ابنة محمد على باشا بها روح نجس، ولما علم أبوها أن “ الأنبا حرابامون “ أسقف المنوفية قد أعطاه الله موهبة إخراج الأرواح النجسة استدعاه . ولما صلى لأجلها شفيت فى الحال، فأعطاه محمد على باشا صرة بها أربعة آلاف جنيه، فرفضها قائلاً: إنه ليس فى حاجة إليها لأنه يعيش حياة الزهد، وهو قانع بها “ .
هذا هو الخبر الذى يوزع على الجماهير ليترك أثره فى صمت .
وموهبة استخراج العفاريت من الأجسام الممسوسة موهبة يدعيها نفر من الناس، أغلبهم يحترف الدجل، وأقلهم يستحق الاحترام، وأعرف بعض المسلمين يزعم هذا، وأشعر بريبة كبيرة نحوه .
ومرضى الأعصاب يحيرون الأطباء، وربما أعيا أمرهم عباقرة الطب، ونجح فى علاجهم عامى يكتب “ حجاباً “ لا شىء فيه غير بعض الصور والأرقام .
وليس يعنينى أن أصدق أو أكذب المأسوف على مهارته أسقف المنوفية، وإنما يعنينى كشف طريقة من طرق إقناع الناس بصدق النصرانية، وأن الثالوث حق، والصلب قد وقع، والأتباع المخلصين يأتون العجائب ..
والمسيحية أحوج الأديان لهذا اللون من الأقاصيص، هى فقيرة إليها فى سلمها لإثبات أصولها الخارجة على المنطق العقلى، وفقيرة إليه فى قتالها لتبرير عدوانها على الآخرين .
وتدبر معى هذه القصة من قصص الحروب الصليبية المشهورة بقصة “ الرمح المقدس “ منقولة من كتاب “ الشرق والغرب “:
“ دفع الصليبيون من أجل عبور آسيا الصغرى ثمناً باهظاً، إذ فقدوا أفضل جنودهم وخيرة عساكرهم، بينما استولى اليأس والفزع على البقية الباقية ..
“ وبدأ الخوف من تفكك الجيش وفرار الجنود يساور القادة، فعمدوا إلى بعض الحيل الدينية لصد هذا الخطر وربط الجنود برباط العقيدة . ومن تلك الحيل التى روجوا لها ما رواه المؤرخون عن ظهور المسيح والعذراء أمام الجنود الهيابين ووعدهم بالصفح عن الخطايا والخلود فى الجنة إذا ما استماتوا فى معاركهم ضد المسلمين ..
“ غير أن هذا الأسلوب النظرى لم يلهب حماس الجنود، ولم يحقق الغرض الذى ابتدعه الصليبيون من أجله، فكان لا بد من أسلوب آخر ينطوى على واقعة مادية يكون من شأنها إعادة الإيمان إلى القلوب التى استبد بها اليأس، وتقوية العزائم التى أوهنتها الحرب . وهنا أذيع بين الجنود قصة اكتشاف الرمح المقدس ..
“ تلك الواقعة التى روى تفاصيلها المؤرخ “ جيبون “ فضلاً عن غيره من المؤرخين المعاصرين . قال: ..
“ إن قساً يدعى بطرس بارتلمى من التابعين لأسقفية “ مارسيليا “ منحرف الخلق ذا عقلية شاذة، وتفكير ملتو معقد زعم لمجلس قيادة الحملة الصليبية، أن قديساً يدعى “ أندريه “ زاره أثناء نومه، وهدده بأشد العقوبات إن هو خالف أوامر السماء، ثم أفضى إليه بأن الرمح الذى اخترق قلب عيسى عليه السلام مدفون بجوار كنيسة القديس بطرس فى مدينة “ انطاكيا “، فروى “ بارتلمى “ هذه الرؤيا لمجلس قيادة الجيش، وأخبرهم بأن هذا القديس الذى طاف به فى منامه قد طلب إليه أن يبادر إلى حفر أرض المحراب لمدة أيام ثلاثة، تظهر بعدها “ أداة الخلود “ التى “ تخلص “ المسيحيين جميعاً، وأن القديس قال له: ابحثوا تجدوا .. ثم ارفعوا الرمح وسط الجيش، وسوف يمرق الرمح ليصيب أرواح أعدائكم المسلمين ..
“ وأعلن القس “ بارتلمى “ اسم أحد النبلاء ليكون حارساً للرمح، واستمرت طقوس العبادة من صوم وصلاة ثلاثة أيام دخل فى نهايتها اثنا عشر رجلاً ليقوموا بالحفر والتنقيب عن “ الرمح “ فى محراب الكنيسة (!) ..
“ لكن أعمال الحفر والتنقيب التى توغلت فى عمق الأرض اثنى عشر قدماً لم تسفر عن شىء . فلما جن الليل أخلد “ النبيل “ الذى اختير لحراسة الرمح إلى شىء من الراحة، وأخذته سنة من النوم، وبدأت الجماهير التى احتشدت بأبواب الكنيسة تتهامس ..! ..
“ فاستطاع القس “ بارتلمى “ فى جنح الظلام أن ينزل إلى الحفرة، مخفياً فى طيات ثيابه قطعة من نصل رمح أحد المقاتلين العرب، وبلغ أسماع القوم رنين من جوف الحجرة، فتعالت صيحاتهم من فرط الفرح، وظهر القس وبيده النصل الذى احتواه بعد ذلك قماش من الحرير الموشى بالذهب، ثم عرض على الصليبيين ليلتمسوا منه البركة، وأذيعت هذه الحيلة بين الجنود وامتلأت قلوبهم بالثقة، وقد أمعن قادة الحملة فى تأييد هذه الواقعة بغض النظر عن مدى إيمانهم بها أو تكذيبهم لها .. “ .
على هذا النحو، ولمثل هذا الغرض جرت أسطورة ظهور العذراء فى كنيسة عادية، وكاهنها ـ فيما علمت ـ رجل فاشل لا يتردد الأقباط على دروسه .
وبين عشية وضحاها أصبح كعبة الآلاف، فقد شاع وملأ البقاع أن العذراء تجلت شبحاً نورانياً فوق برج كنيسته، ورآها هو وغيره فى جنح الليل البهيم ..
وكأنما الصحف المصرية كانت على موعد مع هذه الإشاعة، فقد ظهرت كلها بغتة، وهى تذكر النبأ الغامض، وتنشر صورة البرج المحظوظ، وتلح إلى حد الإسفاف فى توكيد القصة ..
وبلغ من الجرأة أنها ذكرت تكرار التجلى المقدس فى كل ليلة .
وكنت موقناً أن كل حرف من هذا الكلام كذب متعمد، ومع ذلك فإن أسرة تحرير مجلة “ لواء الإسلام “ قررت أن تذهب إلى جوار الكنيسة المذكورة كى ترى بعينيها ما هنالك ..
وذهبنا أنا والشيخ “ محمد أبو زهرة “ وآخرون، ومكثنا ليلاً طويلاً نرقب الأفق، ونبحث فى الجو، ونفتش عن شىء، فلا نجد شيئاً البتة .
وبين الحين والحين نسمع صياحاً من الدهماء المحتشدين لا يلبث أن ينكشف عن صفر .. عن فراغ .. عن ظلام يسود السماء فوقنا .. لا عذراء ولا شمطاء ..
وعدنا وكتبنا ما شهدنا، وفوجئنا بالرقابة تمنع النشر ..
وقال لنا بعض الخبراء: إن الحكومة محتاجة إلى جعل هذه المنطقة سياحية، لحاجتها إلى المال، ويهمها أن يبقى الخبر ولو كان مكذوباً ..
ما هذا ؟!
ولقينى أستاذ الظواهر الجوية بكلية العلوم فى جامعة القاهرة، ووجدنى ساخطاً ألعن التآمر على التخريف وإشاعة الإفك، فقال لى: أحب أن تسمع لى قليلاً، إن الشعاع الذى قيل برؤيته فوق برج الكنيسة له أصل علمى مدروس، واقرأ هذا البحث .
وقرأت البحث الذى كتبه الرجل العالم المتخصص (الأستاذ الدكتور محمد جمال الدين الفندى)، واقتنعت به، وإنى أثبته كاملاً هنا ..:
“ ظاهرة كنيسة الزيتون ظاهرة طبيعية ..
“ عندما أتحدث باسم العلم لا أعتبر كلامى هذا رداً على أحد، أو فتحاً لباب النقاش فى ظاهرة معروفة، فلكل شأنه وعقيدته، ولكن ما أكتب هو بطبيعة الحال ملخص ما أثبته العلم فى هذا المجال من حقائق لا تقبل الجدل ولا تحتمل التأويل، نبصر بها الناس، ولكل شأنه وتقديره ..
“ ولا ينكر العلم الطبيعى حدوث هذه الظاهرة، واستمرارها فى بعض الليالى لعدة ساعات، بل يقرها ولكن على أساس أنها مجرد نيران أو وهج أو ضياء متعددة الأشكال غير واضحة المعالم، بحيث تسمح للخيال أن يلعب فيها دوره، وينسج منها ما شاءت الظروف أن ينسج من ألوان الخيوط والصور . إنها من ظواهر الكون الكهربائية التى تحدث تحت ظروف جوية معينة، تسمح بسريان الكهرباء من الهواء إلى الأرض عبر الأجسام المرتفعة نسبياً المدببة فى نفس الوقت، شأنها فى ذلك مثلاً شأن الصواعق التى هى نيران مماثلة، ولكن على مدى أكبر وشدة أعظم، وشأن الفجر القطبى الذى هو فى مضمونه تفريغ كهربى فى أعالى جو الأرض، ولطالما أثار الفجر القطبى اهتمام الناس بمنظره الرائع الخلاب، حتى ذهب بعضم خطأ إلى أنه ليلة القدر، لأنه يتدلى كالستائر المزركشة ذات الألوان العديدة التى تتموج فى مهب الريح ..
“ ومن أمثلة الظواهر المماثلة لظاهرتنا هذه أيضاً ـ من حيث حدوث الأضواء وسط الظلام ـ السحب المضيئة العالية المعروفة باسم “ سحاب اللؤلؤ “، وهذا السحاب يضىء ويتلألأ وسط ظلام الليل، لأنه يرتفع فوق سطح الأرض، ويبعد عنها البعد الكافى الذى يسمح بسقوط أشعة الشمس عليه رغم اختفاء قرص الشمس تحت الأفق، وتضىء تلك الأشعة ذلك السحاب العالى المكون من أبر الثلج، فيتلألأ ويلمع ضياؤه ويترنح وسط ظلام الليل ونقاء الهواء العلوى فيتغنى به الشعراء ..
“ وتذكرنا هذه الظاهرة كذلك بظاهرة السراب المعروفة، تلك التى حيرت جيوش الفرنسيين أثناء حملة نابليون على مصر، فقد ظنوا أنها من عمل الشياطين حتى جاءهم العالم الطبيعى “ مونج “ بالخبر اليقين، وعرف الناس أنها من ظواهر الطبيعة الضوئية ..
“ وظاهرتنا التى تهمنا وتشغل بال الكثيرين منا تسمى فى كتب العلم “ نيران القديس المو “ أو “ نيران سانت المو “، ونحن نسوق هنا ما جاء عنها فى دائرة المعارف البريطانية التى يملكها الكثيرون ويمكنهم الرجوع إليها: النص الإنجليزى فى: Handy Volume Essue Eleventh Edition الصحيفة الأولى من المجلد الرابع والعشرين تحت اسم: St. Elms Firs .. وترجمة ذلك الكلام حرفياً: ..
“ نيران سانت المو: هى الوهج الذى يلازم التفريغ الكهربى البطىء من الجو إلى الأرض . وهذا التفريع المطابق لتفريغ “ الفرشاة “ المعروف فى تجارب معامل الطبيعة يظهر عادة فى صورة رأس من الضوء على نهايات الأجسام المدببة التى على غرار برج الكنيسة وصارى السفينة أو حتى نتوءات الأراضى المنبسطة، وتصحبها عادة ضوضاء طقطقة وأزيز ..
“ وتشاهد نيران سانت المو أكثر ما تشاهد فى المستويات المنخفضة خلال موسم الشتاء أثناء وفى أعقاب عواصف الثلج ..
“ واسم سانت المو هو لفظ إيطالى محرف من سانت “ رمو “ وأصله سانت أراموس، وهو البابا فى مدة حكم دومتيان، وقد حطمت سفينته فى 2 يونيو عام 304، ومنذ ذلك الحين اعتبر القديس الراعى لبحارة البحر المتوسط الذين اعتبروا نيران سانت الموا بمثابة العلاقة المرئية لحمايته لهم، وعرفت الظاهرة لدى قدماء الإغريق . ويقول بلن Biln فى كتابه “ التاريخ الطبيعيى “ أنه كلما تواجد ضوءان كانت البحارة تسميهما التوأمان، واعتبر بمثابة الجسم المقدس ..
“ على هذا النحو نرى أن أهل العلم الطبيعى لا يتحدثون عن خوارق الطبيعة، وإنما يرجعون كل شىء إلى قانونه السليم العام التطبيقى، أما من حيث انبعاث ألوان تميز تلك النيران، فيمكننا الرجوع إلى بعض ما عمله العلماء الألمان أمثال جوكل Gockel من تفسير الاختلاف فى الألوان، فهو يبين فى كتابه Das gewiter من التجارب التى أجراها فى ألمانيا أنه أثناء سقوط الثلج تكون الشحنة موجبة (اللون الأحمر)، أما أثناء تساقط صفائح ثلج فإن الشحنة ليست نادرة، ويصحبها أزيز، ويغلب عليها اللون الأزرق ..
“ وفى كتاب الكهرباء الجوية Atmospheric Electricity لمؤلفه شوتلاند صفحة 38 نجده يقول: ..
“ تحت الظروف الملائمة فإن القسم البارز على سطح الأرض كصوارى السفن إذا تعرضت إلى مجالات شديدة من حالات شحن الكهرباء الجوية يحصل التفريغ الوهجى ويظهر واضحاً ويسمى نيران سانت المو ..
“ قارن هذا بالأوصاف التى وردت فى جريدة الأهرام بتاريخ 6 / 5 / 1968 .. (هيئة جسم كامل من نور يظهر فوق القباب الأربع الصغيرة لكنيسة الزيتون أو فوق الصليب الأعلى للقبة الكبرى أو فوق الأشجار المحيطة بالكنيسة .. الخ ..) ..
“ .. (.. أما الألوان .. فقد أجمعت التقارير حتى الآن على أنها الأصفر الفاتح المتوهج والأزرق السماوى)..
“ وعندما نرجع بالذاكرة إلى الحالة الجوية التى سبقت أو لازمت الرؤية الظاهرة، نجد أن الجمهورية كانت تجتاحها فى طبقات الجو العلوى موجة من الهواء الباردة جداً الذى فاق فى برودته هواء أوربا نفسها، مما وفر الظرف الملائم لتولد موجات كهربية بسبب عدم الاستقرار، ولكن فروق الجهد الكهربى يمكن أن تظل كافية مدة طويلة ..
“ ويضيف ملهام Milham عالم الرصد الجوى البريطانى فى كتابه “ المتيرولوجيا “ صفحة 481 (أنه أحياناً تنتشر رائحة من الوهج ..) وتفسيرنا العلمى للرائحة أنها من نتائج التفاعلات الكيماوية التى تصحب التفريغ الكهربى وتكون مركبات كالأوزون ..
“ وخلاصة القول أنه من المعروف والثابت علمياً أن التفريغ الكهربى المصحوب بالوهج يحدث من الموصلات المدببة عندما توضح فى مجال كهربى كاف، وهو يتكون من سيال من الأيونات التى تحمل شحنات من نفس نوع الشحنات التى يحملها الموصل ..
“ والتفريغات الكهربية التى من هذا النوع يجب أن تتوقع حدوثها من أطراف الموصلات المعرضة على الأرض، مثل النخيل والأبراج ونحوها، عندما يكون مقدار التغير فى الجهد الكهربى كافياً، بشرط أن يكون ارتفاع الجسم المتصل بالأرض ودقة الأطراف المعرضة ملائمة، ومن المؤكد أن الباحثين الأول أمثال فرنكلين لاحظوا مجال الجو الكهربى حتى فى حالات صفاء السماء ..
“ وتحت الظروف الطبيعية الملائمة التى توفرها الأطراف المدببة للأجسام المرتفعة فوق سطح الأرض قد يصبح وهج التفريغ ظاهراً واضحاً ..
“ وقد ذكر “ ولسون “ العالم البريطانى فى الكهربائية الجوية أن التفريغ الكهربى البطىء للأجسام المدببة يلعب دوراً هاماً فى التبادل الكهربى بين الجو والأرض، خصوصاً عن طريق الأشجار والشجيرات وقمم المنازل وحتى حقول الحشائش . وليس من اللازم أن ينتهى الجسم الموصل بطرف مدبب أو يبرز إلى ارتفاعات عظيمة ..
“ وقد يتساءل الناس: ..
“ ـ .. إن الظاهرة خدعت الأقدمين من الرومان قبل عصر العلم، ثم فى عصر العلم فسر العلماء الظاهرة على أنها تفريغ كهربى، لكن التاريخ يعيد نفسه، فقد خدعت نفس الظاهرة الطبيعية أهل مصر، فأطلقوا عليها نفس الاسم الذى تحمله الكنيسة التى ظهرت النيران فوقها، ومن هنا ظن القوم خطأ أنها روح مريم عليها السلام ..
“ ـ .. الظاهرة الطبيعية تحدث فى الهواء الطلق أعلى المبانى والشجر ولا تحدث داخل المبانى، وهو عين ما شوهد، ولو أنها كانت روح العذراء لراحت تظهر داخل الكنيسة بدلاً من الظهور على الأشجار والقباب ..
“ ـ .. الظاهرة الجوية يرتبط ظهورها ومكثها بالكهربائية الجوية، وعموماً بالجو وتقلباته، فهل إذا كانت روحاً يرتبط ظهورها بالجو كذلك ؟؟ ..
“ ـ .. الظاهرة الطبيعية لا تشاهد إلا عندما يخيم الظلام، بسبب ضعف ضوء الوهج بالنسبة إلى ضوء الشمس الساطع . ولكن ما يمنع الأرواح الطاهرة أن تظهر بالنهار ؟؟ ..
“ ـ .. إذا كانت نفس الظاهرة تشاهد فى أماكن أخرى فى مصر فما الموضوع ؟ “ .
وحاول الدكتور محمد جمال الدين الفندى أن ينشر بحثه فى الصحف فأبت، والغريب أنه لما نشر فى مجلة الوعى الإسلامى “ الكويتية منع دخولها مصر ..
والأغرب من ذلك أن الأوامر صدرت لأئمة المساجد ألا يتعرضوا للقصة من قريب أو بعيد !
وذهب محافظ القاهرة “ سعد زايد “ ليضع تخطيطاً جديداً للميدان، يلائم الكنيسة التى سوف تبنى تخليداً لهذا الحدث الجليل .. وعلمت بعد ذلك من زملائى وتلامذتى أن لتجليات العذراء دورات منظمة مقصودة .
فقد ظهرت فى “ الحبشة “ قريباً من أحد المساجد الكبرى فاستولت عليه السلطة فوراً، وشيدت على المكان كله كنيسة سامقة !!
وظهرت فى “ لبنان “ فشدت من أزر المسيحية التى تريد فرض وجودها على جباله وسهوله مع أن كثرة لبنان مسلمة .
وها هى ذى قد ظهرت فى القاهرة أخيراً لتضاعف من نشاط إخواننا الأقباط كى يشددوا ضغطهم على الإسلام ..
وقد ظلت جريدة “ وطنى “ الطائفية تتحدث عن هذا التجلى الموهوم قريباً من سنة، إذ العرض مستمر، والخوارق تترى، والأمراض المستعصية تشفى، والحاجات المستحيلة تقضى ..
كل ذلك وأفواه المسلمين مكممة،وأقلامهم مكسورة حفاظاً على الوحدة الوطنية .
وسوف تتجلى مرة أخرى بداهة عندما تريد ذلك المخابرات المركزية الأمريكية . ولله فى خلقه شئون ..
قصة “ الله محبة “ وموقف شتى الأناجيل منها
وقال لى أحدهم وهو يحاورنى: إننا نرى أن الله محبة !! على عكس ما ترون .. فأجبت ساخراً، كأننا نرى الله كراهية ؟!! إن الله مصدر كل رحمة وبر، وكل نعمة وخير .. وصحيح أننا نصفه بالسخط على الفجار والظلمة، والأمر فى ذلك كما قال جل شأنه “ ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين “ أفليس الأمر كذلك لديكم ؟ إنكم تخدعون العالمين بذكر هذه الكلمة وحدها ووضع ستائر كثيفة على ما عداها من كلمات تصف الجبروت الإلهى بأشد مما ورد فى الإسلام، بل إن تعامل بعضكم مع البعض، وتعاملكم جميعاً مع الخصوم لا يقول إلا على هذه الكلمات الأخرى التى تخفونها، وما أكثرها لديكم .
قال “ ايتين دينيه “ المستشرق المسلم: “ بيد أن المسيح نفسه ـ وهو سيدنا وسيد المسيحيين ـ يعلن: “ ولا تظنوا أنى جئت أنشر السلام على الأرض، إننى لم آت أحمل السلام وإنما السيف “ (متى:الاصحاح العاشر:34) ..
“ ويقول السيد المسيح: “ إننى جئت لألقى النار على الأرض، وماذا أريد من ذلك إلا اشتعالها “
(لوقا: الاصحاح الثانى عشر، 49) ..
“ ويقول السيد المسيح: “ إذ إنى جئت لأفرق بين الولد وأبيه، والبنت وأمها، وبين زوجة الابن وأمه “ (متى: الاصحاح العاشر: 35) ..
“ ويقول السيد المسيح: “ إن كان أحد يأتى ولا يبغض أباه وأمه، وامرأته وأولاده، وإخوته وأخواته، حتى نفسه أيضاً فلا يقدر أن يكون لى تلميذاً “ (لوقا: الاصحاح الرابع عشر: 26) ..
“ أين من هذا ما جاء به النبى العربى الكريم من سلام حقيقى وحب كامل بين الأخ وأخيه، وبين الزوجة وزوجها، وبين الأب وولده، وبين الأم وفلذة كبدها، وبين الجار وجاره مسلماً كان أو غير مسلم، وبين الأرحام والأقرباء، وبين المشتركين فى الإنسانية الذين يتوفر لديهم مدلول الإنسانية فى بنى الإنسان “ .
إننا ـ نحن المسلمين ـ نتقرب إلى الله عز وجل برحمة الناس وغير الناس والبذل من مالنا وجهدنا ووقتنا فى سبيل نفعهم، ولنا على كل شىء من ذلك أجر فى ميزان الله الذى لا يختل عنده ميزان .
وما أصدقها شهادة تلك التى بعث بها البطريرك (النسطورى الثالث) إلى البطريرك “ سمعان “ زميله فى المجمع بعد ظهور الإسلام حيث قال فى كتابه: “ إن العرب الذين منحهم الرب سلطة العالم وقيادة الأرض أصبحوا معنا، ومع ذلك نراهم لا يعرضون النصرانية بسوء، فهم يساعدوننا ويشجعوننا على الاحتفاظ بمعتقداتنا، وإنهم ليجلون الرهبان والقسيسين، ويعاونون بالمال الكنائس والأديرة “ .
وما أصدق ما يقوله المؤرخ العالمى (هـ . ج . ويلز) فى كتابه: “ معالم تاريخ الإنسانية “ لقد تم فى
“ 125 عاماً أن نشر الإسلام لواءه من نهر السند إلى المحيط الأطلسى وأسبانيا، ومن حدود الصين إلى مصر العليا ولقد ساد الإسلام لأنه كان خير نظام اجتماعى وسياسى استطاعت الأيام تقديمه، وهو قد انتشر لأنه كان يجد فى كل مكان شعوباً بليدة سياسياً: تسلب وتظلم وتخوف، ولا تعلم ولا تنظم، كذلك وجدت حكومات أنانية سقيمة لا اتصال بينها وبين أى شعب . فكان الإسلام أوسع وأحدث وأنظف فكرة سياسية اتخذت سعة النشاط الفعلى فى العالم حتى ذلك اليوم، وكان يهب بنى الإنسان نظاماً أفضل من أى نظام آخر “ .
تجليات العذراء، الرمح المقدس، الحقيقة العلمية المطاردة
تقتعد خوارق العادات المكانة الأولى فى الأديان البدائية، وكلما وَهى الأساس العقلى لدين ما زاد اعتماده على هذه الخوارق، وجمع منها الكثير لكهنته وأتباعه .
والمسيحية من الأديان التى تعول فى بقائها وانتشارها على عجائب الشفاء، وآثار القوى الخفية الغيبية.
وبين يدى الآن نشرة صغيرة، على أحد وجهيها صورة العذراء وهى تقطر وداعة ولطفاً، وعلى ذراعها الطفل الإله يسوع يمثل البراءة والرقة . أما الوجه الآخر للصورة فقد تضمن هذا الخبر تحت عنوان “ محبة الآخرين وخدمتهم “، وتحته هذه الجملة “ حسبما لنا فرصة فلنعمل الخير للجميع “ (غل 6: 10) “ كانت السيدة زهرة ابنة محمد على باشا بها روح نجس، ولما علم أبوها أن “ الأنبا حرابامون “ أسقف المنوفية قد أعطاه الله موهبة إخراج الأرواح النجسة استدعاه . ولما صلى لأجلها شفيت فى الحال، فأعطاه محمد على باشا صرة بها أربعة آلاف جنيه، فرفضها قائلاً: إنه ليس فى حاجة إليها لأنه يعيش حياة الزهد، وهو قانع بها “ .
هذا هو الخبر الذى يوزع على الجماهير ليترك أثره فى صمت .
وموهبة استخراج العفاريت من الأجسام الممسوسة موهبة يدعيها نفر من الناس، أغلبهم يحترف الدجل، وأقلهم يستحق الاحترام، وأعرف بعض المسلمين يزعم هذا، وأشعر بريبة كبيرة نحوه .
ومرضى الأعصاب يحيرون الأطباء، وربما أعيا أمرهم عباقرة الطب، ونجح فى علاجهم عامى يكتب “ حجاباً “ لا شىء فيه غير بعض الصور والأرقام .
وليس يعنينى أن أصدق أو أكذب المأسوف على مهارته أسقف المنوفية، وإنما يعنينى كشف طريقة من طرق إقناع الناس بصدق النصرانية، وأن الثالوث حق، والصلب قد وقع، والأتباع المخلصين يأتون العجائب ..
والمسيحية أحوج الأديان لهذا اللون من الأقاصيص، هى فقيرة إليها فى سلمها لإثبات أصولها الخارجة على المنطق العقلى، وفقيرة إليه فى قتالها لتبرير عدوانها على الآخرين .
وتدبر معى هذه القصة من قصص الحروب الصليبية المشهورة بقصة “ الرمح المقدس “ منقولة من كتاب “ الشرق والغرب “:
“ دفع الصليبيون من أجل عبور آسيا الصغرى ثمناً باهظاً، إذ فقدوا أفضل جنودهم وخيرة عساكرهم، بينما استولى اليأس والفزع على البقية الباقية ..
“ وبدأ الخوف من تفكك الجيش وفرار الجنود يساور القادة، فعمدوا إلى بعض الحيل الدينية لصد هذا الخطر وربط الجنود برباط العقيدة . ومن تلك الحيل التى روجوا لها ما رواه المؤرخون عن ظهور المسيح والعذراء أمام الجنود الهيابين ووعدهم بالصفح عن الخطايا والخلود فى الجنة إذا ما استماتوا فى معاركهم ضد المسلمين ..
“ غير أن هذا الأسلوب النظرى لم يلهب حماس الجنود، ولم يحقق الغرض الذى ابتدعه الصليبيون من أجله، فكان لا بد من أسلوب آخر ينطوى على واقعة مادية يكون من شأنها إعادة الإيمان إلى القلوب التى استبد بها اليأس، وتقوية العزائم التى أوهنتها الحرب . وهنا أذيع بين الجنود قصة اكتشاف الرمح المقدس ..
“ تلك الواقعة التى روى تفاصيلها المؤرخ “ جيبون “ فضلاً عن غيره من المؤرخين المعاصرين . قال: ..
“ إن قساً يدعى بطرس بارتلمى من التابعين لأسقفية “ مارسيليا “ منحرف الخلق ذا عقلية شاذة، وتفكير ملتو معقد زعم لمجلس قيادة الحملة الصليبية، أن قديساً يدعى “ أندريه “ زاره أثناء نومه، وهدده بأشد العقوبات إن هو خالف أوامر السماء، ثم أفضى إليه بأن الرمح الذى اخترق قلب عيسى عليه السلام مدفون بجوار كنيسة القديس بطرس فى مدينة “ انطاكيا “، فروى “ بارتلمى “ هذه الرؤيا لمجلس قيادة الجيش، وأخبرهم بأن هذا القديس الذى طاف به فى منامه قد طلب إليه أن يبادر إلى حفر أرض المحراب لمدة أيام ثلاثة، تظهر بعدها “ أداة الخلود “ التى “ تخلص “ المسيحيين جميعاً، وأن القديس قال له: ابحثوا تجدوا .. ثم ارفعوا الرمح وسط الجيش، وسوف يمرق الرمح ليصيب أرواح أعدائكم المسلمين ..
“ وأعلن القس “ بارتلمى “ اسم أحد النبلاء ليكون حارساً للرمح، واستمرت طقوس العبادة من صوم وصلاة ثلاثة أيام دخل فى نهايتها اثنا عشر رجلاً ليقوموا بالحفر والتنقيب عن “ الرمح “ فى محراب الكنيسة (!) ..
“ لكن أعمال الحفر والتنقيب التى توغلت فى عمق الأرض اثنى عشر قدماً لم تسفر عن شىء . فلما جن الليل أخلد “ النبيل “ الذى اختير لحراسة الرمح إلى شىء من الراحة، وأخذته سنة من النوم، وبدأت الجماهير التى احتشدت بأبواب الكنيسة تتهامس ..! ..
“ فاستطاع القس “ بارتلمى “ فى جنح الظلام أن ينزل إلى الحفرة، مخفياً فى طيات ثيابه قطعة من نصل رمح أحد المقاتلين العرب، وبلغ أسماع القوم رنين من جوف الحجرة، فتعالت صيحاتهم من فرط الفرح، وظهر القس وبيده النصل الذى احتواه بعد ذلك قماش من الحرير الموشى بالذهب، ثم عرض على الصليبيين ليلتمسوا منه البركة، وأذيعت هذه الحيلة بين الجنود وامتلأت قلوبهم بالثقة، وقد أمعن قادة الحملة فى تأييد هذه الواقعة بغض النظر عن مدى إيمانهم بها أو تكذيبهم لها .. “ .
على هذا النحو، ولمثل هذا الغرض جرت أسطورة ظهور العذراء فى كنيسة عادية، وكاهنها ـ فيما علمت ـ رجل فاشل لا يتردد الأقباط على دروسه .
وبين عشية وضحاها أصبح كعبة الآلاف، فقد شاع وملأ البقاع أن العذراء تجلت شبحاً نورانياً فوق برج كنيسته، ورآها هو وغيره فى جنح الليل البهيم ..
وكأنما الصحف المصرية كانت على موعد مع هذه الإشاعة، فقد ظهرت كلها بغتة، وهى تذكر النبأ الغامض، وتنشر صورة البرج المحظوظ، وتلح إلى حد الإسفاف فى توكيد القصة ..
وبلغ من الجرأة أنها ذكرت تكرار التجلى المقدس فى كل ليلة .
وكنت موقناً أن كل حرف من هذا الكلام كذب متعمد، ومع ذلك فإن أسرة تحرير مجلة “ لواء الإسلام “ قررت أن تذهب إلى جوار الكنيسة المذكورة كى ترى بعينيها ما هنالك ..
وذهبنا أنا والشيخ “ محمد أبو زهرة “ وآخرون، ومكثنا ليلاً طويلاً نرقب الأفق، ونبحث فى الجو، ونفتش عن شىء، فلا نجد شيئاً البتة .
وبين الحين والحين نسمع صياحاً من الدهماء المحتشدين لا يلبث أن ينكشف عن صفر .. عن فراغ .. عن ظلام يسود السماء فوقنا .. لا عذراء ولا شمطاء ..
وعدنا وكتبنا ما شهدنا، وفوجئنا بالرقابة تمنع النشر ..
وقال لنا بعض الخبراء: إن الحكومة محتاجة إلى جعل هذه المنطقة سياحية، لحاجتها إلى المال، ويهمها أن يبقى الخبر ولو كان مكذوباً ..
ما هذا ؟!
ولقينى أستاذ الظواهر الجوية بكلية العلوم فى جامعة القاهرة، ووجدنى ساخطاً ألعن التآمر على التخريف وإشاعة الإفك، فقال لى: أحب أن تسمع لى قليلاً، إن الشعاع الذى قيل برؤيته فوق برج الكنيسة له أصل علمى مدروس، واقرأ هذا البحث .
وقرأت البحث الذى كتبه الرجل العالم المتخصص (الأستاذ الدكتور محمد جمال الدين الفندى)، واقتنعت به، وإنى أثبته كاملاً هنا ..:
“ ظاهرة كنيسة الزيتون ظاهرة طبيعية ..
“ عندما أتحدث باسم العلم لا أعتبر كلامى هذا رداً على أحد، أو فتحاً لباب النقاش فى ظاهرة معروفة، فلكل شأنه وعقيدته، ولكن ما أكتب هو بطبيعة الحال ملخص ما أثبته العلم فى هذا المجال من حقائق لا تقبل الجدل ولا تحتمل التأويل، نبصر بها الناس، ولكل شأنه وتقديره ..
“ ولا ينكر العلم الطبيعى حدوث هذه الظاهرة، واستمرارها فى بعض الليالى لعدة ساعات، بل يقرها ولكن على أساس أنها مجرد نيران أو وهج أو ضياء متعددة الأشكال غير واضحة المعالم، بحيث تسمح للخيال أن يلعب فيها دوره، وينسج منها ما شاءت الظروف أن ينسج من ألوان الخيوط والصور . إنها من ظواهر الكون الكهربائية التى تحدث تحت ظروف جوية معينة، تسمح بسريان الكهرباء من الهواء إلى الأرض عبر الأجسام المرتفعة نسبياً المدببة فى نفس الوقت، شأنها فى ذلك مثلاً شأن الصواعق التى هى نيران مماثلة، ولكن على مدى أكبر وشدة أعظم، وشأن الفجر القطبى الذى هو فى مضمونه تفريغ كهربى فى أعالى جو الأرض، ولطالما أثار الفجر القطبى اهتمام الناس بمنظره الرائع الخلاب، حتى ذهب بعضم خطأ إلى أنه ليلة القدر، لأنه يتدلى كالستائر المزركشة ذات الألوان العديدة التى تتموج فى مهب الريح ..
“ ومن أمثلة الظواهر المماثلة لظاهرتنا هذه أيضاً ـ من حيث حدوث الأضواء وسط الظلام ـ السحب المضيئة العالية المعروفة باسم “ سحاب اللؤلؤ “، وهذا السحاب يضىء ويتلألأ وسط ظلام الليل، لأنه يرتفع فوق سطح الأرض، ويبعد عنها البعد الكافى الذى يسمح بسقوط أشعة الشمس عليه رغم اختفاء قرص الشمس تحت الأفق، وتضىء تلك الأشعة ذلك السحاب العالى المكون من أبر الثلج، فيتلألأ ويلمع ضياؤه ويترنح وسط ظلام الليل ونقاء الهواء العلوى فيتغنى به الشعراء ..
“ وتذكرنا هذه الظاهرة كذلك بظاهرة السراب المعروفة، تلك التى حيرت جيوش الفرنسيين أثناء حملة نابليون على مصر، فقد ظنوا أنها من عمل الشياطين حتى جاءهم العالم الطبيعى “ مونج “ بالخبر اليقين، وعرف الناس أنها من ظواهر الطبيعة الضوئية ..
“ وظاهرتنا التى تهمنا وتشغل بال الكثيرين منا تسمى فى كتب العلم “ نيران القديس المو “ أو “ نيران سانت المو “، ونحن نسوق هنا ما جاء عنها فى دائرة المعارف البريطانية التى يملكها الكثيرون ويمكنهم الرجوع إليها: النص الإنجليزى فى: Handy Volume Essue Eleventh Edition الصحيفة الأولى من المجلد الرابع والعشرين تحت اسم: St. Elms Firs .. وترجمة ذلك الكلام حرفياً: ..
“ نيران سانت المو: هى الوهج الذى يلازم التفريغ الكهربى البطىء من الجو إلى الأرض . وهذا التفريع المطابق لتفريغ “ الفرشاة “ المعروف فى تجارب معامل الطبيعة يظهر عادة فى صورة رأس من الضوء على نهايات الأجسام المدببة التى على غرار برج الكنيسة وصارى السفينة أو حتى نتوءات الأراضى المنبسطة، وتصحبها عادة ضوضاء طقطقة وأزيز ..
“ وتشاهد نيران سانت المو أكثر ما تشاهد فى المستويات المنخفضة خلال موسم الشتاء أثناء وفى أعقاب عواصف الثلج ..
“ واسم سانت المو هو لفظ إيطالى محرف من سانت “ رمو “ وأصله سانت أراموس، وهو البابا فى مدة حكم دومتيان، وقد حطمت سفينته فى 2 يونيو عام 304، ومنذ ذلك الحين اعتبر القديس الراعى لبحارة البحر المتوسط الذين اعتبروا نيران سانت الموا بمثابة العلاقة المرئية لحمايته لهم، وعرفت الظاهرة لدى قدماء الإغريق . ويقول بلن Biln فى كتابه “ التاريخ الطبيعيى “ أنه كلما تواجد ضوءان كانت البحارة تسميهما التوأمان، واعتبر بمثابة الجسم المقدس ..
“ على هذا النحو نرى أن أهل العلم الطبيعى لا يتحدثون عن خوارق الطبيعة، وإنما يرجعون كل شىء إلى قانونه السليم العام التطبيقى، أما من حيث انبعاث ألوان تميز تلك النيران، فيمكننا الرجوع إلى بعض ما عمله العلماء الألمان أمثال جوكل Gockel من تفسير الاختلاف فى الألوان، فهو يبين فى كتابه Das gewiter من التجارب التى أجراها فى ألمانيا أنه أثناء سقوط الثلج تكون الشحنة موجبة (اللون الأحمر)، أما أثناء تساقط صفائح ثلج فإن الشحنة ليست نادرة، ويصحبها أزيز، ويغلب عليها اللون الأزرق ..
“ وفى كتاب الكهرباء الجوية Atmospheric Electricity لمؤلفه شوتلاند صفحة 38 نجده يقول: ..
“ تحت الظروف الملائمة فإن القسم البارز على سطح الأرض كصوارى السفن إذا تعرضت إلى مجالات شديدة من حالات شحن الكهرباء الجوية يحصل التفريغ الوهجى ويظهر واضحاً ويسمى نيران سانت المو ..
“ قارن هذا بالأوصاف التى وردت فى جريدة الأهرام بتاريخ 6 / 5 / 1968 .. (هيئة جسم كامل من نور يظهر فوق القباب الأربع الصغيرة لكنيسة الزيتون أو فوق الصليب الأعلى للقبة الكبرى أو فوق الأشجار المحيطة بالكنيسة .. الخ ..) ..
“ .. (.. أما الألوان .. فقد أجمعت التقارير حتى الآن على أنها الأصفر الفاتح المتوهج والأزرق السماوى)..
“ وعندما نرجع بالذاكرة إلى الحالة الجوية التى سبقت أو لازمت الرؤية الظاهرة، نجد أن الجمهورية كانت تجتاحها فى طبقات الجو العلوى موجة من الهواء الباردة جداً الذى فاق فى برودته هواء أوربا نفسها، مما وفر الظرف الملائم لتولد موجات كهربية بسبب عدم الاستقرار، ولكن فروق الجهد الكهربى يمكن أن تظل كافية مدة طويلة ..
“ ويضيف ملهام Milham عالم الرصد الجوى البريطانى فى كتابه “ المتيرولوجيا “ صفحة 481 (أنه أحياناً تنتشر رائحة من الوهج ..) وتفسيرنا العلمى للرائحة أنها من نتائج التفاعلات الكيماوية التى تصحب التفريغ الكهربى وتكون مركبات كالأوزون ..
“ وخلاصة القول أنه من المعروف والثابت علمياً أن التفريغ الكهربى المصحوب بالوهج يحدث من الموصلات المدببة عندما توضح فى مجال كهربى كاف، وهو يتكون من سيال من الأيونات التى تحمل شحنات من نفس نوع الشحنات التى يحملها الموصل ..
“ والتفريغات الكهربية التى من هذا النوع يجب أن تتوقع حدوثها من أطراف الموصلات المعرضة على الأرض، مثل النخيل والأبراج ونحوها، عندما يكون مقدار التغير فى الجهد الكهربى كافياً، بشرط أن يكون ارتفاع الجسم المتصل بالأرض ودقة الأطراف المعرضة ملائمة، ومن المؤكد أن الباحثين الأول أمثال فرنكلين لاحظوا مجال الجو الكهربى حتى فى حالات صفاء السماء ..
“ وتحت الظروف الطبيعية الملائمة التى توفرها الأطراف المدببة للأجسام المرتفعة فوق سطح الأرض قد يصبح وهج التفريغ ظاهراً واضحاً ..
“ وقد ذكر “ ولسون “ العالم البريطانى فى الكهربائية الجوية أن التفريغ الكهربى البطىء للأجسام المدببة يلعب دوراً هاماً فى التبادل الكهربى بين الجو والأرض، خصوصاً عن طريق الأشجار والشجيرات وقمم المنازل وحتى حقول الحشائش . وليس من اللازم أن ينتهى الجسم الموصل بطرف مدبب أو يبرز إلى ارتفاعات عظيمة ..
“ وقد يتساءل الناس: ..
“ ـ .. إن الظاهرة خدعت الأقدمين من الرومان قبل عصر العلم، ثم فى عصر العلم فسر العلماء الظاهرة على أنها تفريغ كهربى، لكن التاريخ يعيد نفسه، فقد خدعت نفس الظاهرة الطبيعية أهل مصر، فأطلقوا عليها نفس الاسم الذى تحمله الكنيسة التى ظهرت النيران فوقها، ومن هنا ظن القوم خطأ أنها روح مريم عليها السلام ..
“ ـ .. الظاهرة الطبيعية تحدث فى الهواء الطلق أعلى المبانى والشجر ولا تحدث داخل المبانى، وهو عين ما شوهد، ولو أنها كانت روح العذراء لراحت تظهر داخل الكنيسة بدلاً من الظهور على الأشجار والقباب ..
“ ـ .. الظاهرة الجوية يرتبط ظهورها ومكثها بالكهربائية الجوية، وعموماً بالجو وتقلباته، فهل إذا كانت روحاً يرتبط ظهورها بالجو كذلك ؟؟ ..
“ ـ .. الظاهرة الطبيعية لا تشاهد إلا عندما يخيم الظلام، بسبب ضعف ضوء الوهج بالنسبة إلى ضوء الشمس الساطع . ولكن ما يمنع الأرواح الطاهرة أن تظهر بالنهار ؟؟ ..
“ ـ .. إذا كانت نفس الظاهرة تشاهد فى أماكن أخرى فى مصر فما الموضوع ؟ “ .
وحاول الدكتور محمد جمال الدين الفندى أن ينشر بحثه فى الصحف فأبت، والغريب أنه لما نشر فى مجلة الوعى الإسلامى “ الكويتية منع دخولها مصر ..
والأغرب من ذلك أن الأوامر صدرت لأئمة المساجد ألا يتعرضوا للقصة من قريب أو بعيد !
وذهب محافظ القاهرة “ سعد زايد “ ليضع تخطيطاً جديداً للميدان، يلائم الكنيسة التى سوف تبنى تخليداً لهذا الحدث الجليل .. وعلمت بعد ذلك من زملائى وتلامذتى أن لتجليات العذراء دورات منظمة مقصودة .
فقد ظهرت فى “ الحبشة “ قريباً من أحد المساجد الكبرى فاستولت عليه السلطة فوراً، وشيدت على المكان كله كنيسة سامقة !!
وظهرت فى “ لبنان “ فشدت من أزر المسيحية التى تريد فرض وجودها على جباله وسهوله مع أن كثرة لبنان مسلمة .
وها هى ذى قد ظهرت فى القاهرة أخيراً لتضاعف من نشاط إخواننا الأقباط كى يشددوا ضغطهم على الإسلام ..
وقد ظلت جريدة “ وطنى “ الطائفية تتحدث عن هذا التجلى الموهوم قريباً من سنة، إذ العرض مستمر، والخوارق تترى، والأمراض المستعصية تشفى، والحاجات المستحيلة تقضى ..
كل ذلك وأفواه المسلمين مكممة،وأقلامهم مكسورة حفاظاً على الوحدة الوطنية .
وسوف تتجلى مرة أخرى بداهة عندما تريد ذلك المخابرات المركزية الأمريكية . ولله فى خلقه شئون ..
ماذا يريدون ؟
إذا أراد إخواننا الأقباط أن يعيشوا كأعدادهم من المسلمين فأنا معهم فى ذلك، وهم يقاربون الآن مليونين ونصف، ويجب أن يعيشوا كمليونين ونصف من المسلمين ..
لهم ما لهم من حقوق، وعليهم ما عليهم من واجبات، أما أن يحاولوا فرض وصايتهم على المسلمين، وجعل أزِمَّة الحياة الاجتماعية والسياسية فى أيديهم فلا ..
إذا أرادوا أن يبنوا كنائس تسع أعدادهم لصلواتهم وشعائرهم الدينية فلا يعترضهم أحد .. أما إذا أرادوا صبغ التراب المصرى بالطابع المسيحى وإبراز المسيحية وكأنها الدين المهيمن على البلاد فلا ..
إذا أرادوا أن يحتفظوا بشخصيتهم فلا تمتهن وتعاليمهم فلا تجرح فلهم ذلك، أما أن يودوا “ ارتداد “ المسلمين عن دينهم، ويعلنوا غضبهم إذا طالبنا بتطبيق الشريعة الإسلامية، وتعميم التربية الدينية فهذا ما لا نقبله ..
إن الاستعمار أوعز إلى بعضهم أن يقف مراغماً للمسلمين، ولكننا نريد تفاهماً شريفاً مع ناس معقولين ..
إن الاستعمار أشاع بين من أعطوه آذانهم وقلوبهم أن المسلمين فى مصر غرباء، وطارئون عليها، ويجب أن يزولوا، إن لم يكن اليوم فغداً .
وعلى هذا الأساس أسموا جريدتهم الطائفية “ وطنى “ !
ومن هذا المنطلق شرع كثيرون من المغامرين يناوش الإسلام والمسلمين، وكلما رأى عودة من المسلمين إلى دينهم همس أو صرخ: عاد التعصب، الأقباط فى خطر !!
ولا ذرة من ذلك فى طول البلاد وعرضها، ولكنها صيحات مريبة أنعشها وقواها “ بابا شنودة “ دون أى اكتراث بالعواقب .
وقد سبقت محاولات من هذا النوع أخمدها العقلاء، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر كتابات القمص “ سرجيوس “ الذى احتفل “ البابا شنودة “ أخيراً بذكراه .
ففى العدد 41 من السنة 20 من مجلة المنارة الصادر فى 6 / 12 / 1947 كتب هذا القمص تحت عنوان: “ حسن البنا يحرض على قتال الأقليات بعد أن سلح جيوشه بعلم الحكومة “: يقول:
“ نشرنا فى العدد السابق تفسير الشيخ “ حسن البنا “ لآية سورة التوبة قوله: “ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون “ (التوبة: 29) ..
“ قال: وقد قال الفقهاء، وتظاهرت على ذلك الأدلة من الكتاب والسنة: أن القتال فرض عين إذا ديست أرض الإسلام، أو اعتدى عليها المعتدون من غير المسلمين، وهو فرض كفاية لحماية الدعوة الإسلامية وتأمين الوطن الإسلامى، فيكون واجباً على من تتم بهم هذه الحماية وهذا التأمين ..
“ .. وليس الغرض من القتال فى الإسلام إكراه الناس على عقيدة، أو إدخالهم قسراً فى الدين، والله يقول: “ لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى “ (البقرة: 256) كما أنه ليس الغرض من القتال كذلك الحصول على منافع دنيوية أو مغانم دينية، فالزيت والفحم والقمح والمطاط ليست من أهداف المقاتل المسلم الذى يخرج عن نفسه وماله ودمه لله بأن له الجنة “ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون فى سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً فى التوراة والإنجيل والقرآن “ (التوبة: 111) ..
“ حكم قتال أهل الكتاب: ..
“ وأهل الكتاب: (يقاتلون كما يقاتل المشركون تماماً، إذا اعتدوا على أرض الإسلام، أو حالوا دون انتشار دعوته ..) ..
“ الرد: للشيخ (حسن البنا) أسلوبه الخاص فى الكتابة والتفسير وفى الفتاوى، ويعرف بالأسلوب المائع إذ يترك دائماً الأبواب مفتوحة، ليدخل متى شاء فى ما أراد دون أن يتقيد أو يمسك، ومن آيات ميوعته أنه يقول أن القتال يكون فرض عين إذا ديست أرض الإسلام، أو اعتدى عليها المعتدون من غير المسلمين، دون أن يبين أو يحدد ما هى أرض الإسلام أو الوطن الإسلامى: هل هى الحجاز فقط أم هى كل بلد من بلاد العالم يكون فيها المسلمون أغلبية أو أقلية أو متعادلين ؟ ..
“ وكان فى عدم تحديده لأرض الإسلام أو الوطن الإسلامى ماكراً سيئاً ؛ ليكون حراً فى إعلان القتال على من يشاء من المستضعفين من المسيحيين واليهود الذين يقوى على محاربتهم فى أى بلد كان، وكان أحرى به أن يقولها كلمة صريحة أن أرض الإسلام هى الحجاز، أى الأرض التى نشأ عليها الإسلام ـ أى الدين الإسلامى ـ وليست البلاد التى يعيش فيها المسلمون فى العالم . وسواء كانت أرض الإسلام أو وطن الإسلام هى الحجاز أم هى كل بلد من بلاد العالم يعيش فيه المسلمون، فلا يمكن العمل بما يقول به الشيخ (حسن البنا) بأن القتال فرض عين أو فرض كفاية على المسلمين إذا ديست أرض الإسلام أو اعتدى عليها المعتدون من غير المسلمين “ .
وأنا أسأل أى قارئ اطلع على تفسير “ حسن البنا “: هل اشتم منه رائحة تحريض على الأقباط أو اليهود ؟
وأسأل أى منصف قرأ الرد عليه: هل وجد فيه إلا التحرش والرغبة فى الاشتباك دون أدنى سبب ؟
إن هذا القمص المفترى لا يريد إلا شيئاً واحداً: إبعاد الصفة الإسلامية عن مصر، واعتبار الحجاز وحده وطناً إسلامياً . أما مصر فليست وطناً إسلامياً لأن سكانها المسلمين فوق 92 % من جملة أهلها .
ولماذا تنفى الصفة الإسلامية عن مصر مع أن هذه الصفة تذكر لجعل الدفاع عنها فريضة مقدسة ؟
هذا ما يسأل عنه القمص الوطنى، والذين احتفلوا بذكراه بعد ربع قرن من وفاته ..
إن الدفاع عن مصر ضد الاستعمار العالمى ينبغى أن تهتز بواعثه وأن تفتر مشاعره .. !!
لقد كانت مصر وثنية فى العصور القديمة، ثم تنصر أغلبها، فهل يقول الوثنيون المصريون لمن تنصر: إنك فقدت وطنك بتنصرك ؟
ثم أقبل الإسلام فدخل فيه جمهور المصريين، فهل يقال للمسلم: إنك فقدت وطنك بإسلامك ؟
ما هذه الرقاعة ؟!
بيد أن الحملة على الإسلام مضت فى طريقها، وزادت ضراوة وخسة فى الأيام الأخيرة، ثم جاء “ الأنبا شنودة “ رئيساً للأقباط، فقاد حملة لا بد من كشف خباياها، وتوضيح مداها ؛ حتى يدرك الجميع: مم نحذر ؟ وماذا نخشى ؟
وما نستطيع السكوت، ومستقبلنا كله تعصف به الفتن، ويأتمر به سماسرة الاستعمار .
تقرير رهيب
كنت في الإسكندرية، في مارس من سنة 1973، وعلمت ـ من غير قصد ـ بخطاب ألقاه البابا شنودة في الكنيسة المرقصية الكبرى، في اجتماع سرى، أعان الله على إظهار ما وقع فيه .
وإلى القراء ما حدث، كما نقل مسجلا إلى الجهات المعنية:
“ بسم الله الرحمن الرحيم ..
“ نقدم لسيادتكم هذا التقرير لأهم ما دار في الاجتماع بعد أداء الصلاة و التراتيل: ..
“ طلب البابا شنودة من عامة الحاضرين الانصراف، ولم يمكث معه سوى رجال الدين وبعض أثريائهم بالإسكندرية، وبدأ كلمته قائلاً: إن كل شئ على ما يرام، ويجري حسب الخطة الموضوعة، لكل جانب من جوانب العمل على حدة، في إطار الهدف الموحد، ثم تحدث في عدد من الموضوعات على النحو التالي: ..
“ أولا: عدد شعب الكنيسة: ..
“ صرح لهم أن مصادرهم في إدارة التعبئة والإحصاء أبلغتهم أن عدد المسيحيين في مصر ما يقارب الثمانية مليون (8 مليون نسمة)، وعلى شعب الكنيسة أن يعلم ذلك جيداً، كما يجب عليه أن ينشر ذلك ويؤكده بين المسلمين، إذ سيكون ذلك سندنا في المطالب التي سنتقدم بها إلى الحكومة التي سنذكرها لكم اليوم ..
“ والتخطيط العام الذي تم الاتفاق عليه بالإجماع، والتي صدرت بشأنه التعليمات الخاصة لتنفيذه، وضع على أساس بلوغ شعب الكنيسة إلى نصف الشعب المصري، بحيث يتساوى عدد شعب الكنيسة مع عدد المسلمين لأول مرة منذ 13 قرنا، أي منذ “ الإستعمار العربي والغزو الإسلامي لبلادنا “ على حد قوله، والمدة المحددة وفقاً للتخطيط الموضوع للوصول إلى هذه النتيجة المطلوبة تتراوح بين 12 ـ 15 سنة من الآن ..
“ ولذلك فإن الكنيسة تحرم تحريماً تاماً تحديد النسل أو تنظيمه، وتعد كل من يفعل ذلك خارجاً عن تعليمات الكنيسة، ومطروداً من رحمة الرب، وقاتلاً لشعب الكنيسة، ومضيعاً لمجده، وذلك باستثناء الحالات التي يقرر فيها الطب و الكنيسة خطر الحمل أو الولادة على حياة المرأة، و قد اتخذت الكنيسة عدة قرارات لتحقيق الخطة القاضية بزيادة عددهم: ..
“ 1 ـ تحريم تحديد النسل أو تنظيمه بين شعب الكنيسة ..
“ 2 ـ تشجيع تحديد النسل وتنظيمه بين المسلمين (خاصة وأن أكثر من 65 % [!] من الأطباء والقائمين على الخدمات الصحية هم من شعب الكنيسة) ..
“ 3 ـ تشجيع الإكثار من شعبنا، ووضع حوافز ومساعدات مادية ومعنوية للأسر الفقيرة من شعبنا ..
“ 4 ـ التنبيه على العاملين بالخدمات الصحية على المستويين الحكومي و غير الحكومي كي يضاعفوا الخدمات الصحية لشعبنا، وبذل العناية والجهد الوافرين، وذلك من شأنه تقليل الوفيات بين شعبنا (على أن نفعل عكس ذلك مع المسلمين) ..
“ 5 ـ تشجيع الزواج المبكر وتخفيض تكاليفه، وذلك بتخفيف رسوم فتح الكنائس ورسوم الإكليل بكنائس الأحياء الشعبية ..
“ 6 ـ تحرم الكنيسة تحريماً تاماً على أصحاب العمارات والمساكن المسيحيين تأجير أي مسكن أو شقة أو محل تجاري للمسلمين، وتعتبر من يفعل ذلك من الآن فصاعداً مطروداً من رحمة الرب ورعاية الكنيسة، كما يجب العمل بشتى الوسائل على إخراج السكان المسلمين من العمارات والبيوت المملوكة لشعب الكنيسة، وإذا نفذنا هذه السياسة بقدر ما يسعنا الجهد فسنشجع و نسهل الزواج بين شبابنا المسيحي، كما سنصعبه و نضيق فرصه بين شباب المسلمين، مما سيكون أثر فعال في الوصول إلى الهدف، و ليس بخافٍ أن الغرض من هذه القرارات هو انخفاض معدل الزيادة بين المسلمين و ارتفاع هذا المعدل بين شعبنا المسيحى ..
“ ثانياً: اقتصاد شعب الكنيسة: ..
“ قال شنودة: إن المال يأتينا بقدر ما نطلب وأكثر مما نطلب، وذلك من مصادر ثلاثة: أمريكا، الحبشة، الفاتيكان، ولكن ينبغي أن يكون الاعتماد الأول في تخطيطنا الاقتصادي على مالنا الخاص الذي نجمعه من الداخل، وعلى التعاون على فعل الخير بين أفراد شعب الكنيسة، كذلك يجب الاهتمام أكثر بشراء الأرض، و تنفيذ نظام القروض و المساعدات لمن يقومون بذلك لمعاونتهم على البناء، وقد ثبت من واقع الإحصاءات الرسمية أن أكثر من 60 % من تجارة مصر الداخلية هي بأيدي المسيحيين، وعلينا أن نعمل على زيادة هذه النسبة ..
“ وتخطيطنا الاقتصادي للمستقبل يستهدف إفقار المسلمين ونزع الثروة من أيديهم ما أمكن، بالقدر الذي يعمل به هذا التخطيط على إثراء شعبنا، كما يلزمنا مداومة تذكير شعبنا والتنبيه عليه تنبيها مشدداً من حين لآخر بأن يقاطع المسلمين اقتصادياً، وأن يمتنع عن التعامل المادي معهم امتناعاً مطلقاً، إلا في الحالات التي يتعذر فيها ذلك، ويعني مقاطعة: المحاميين ـ المحاسبين ـ المدرسين ـ الأطباء ـ الصيادلة ـ العيادات ـ المستشفيات الخاصة ـ المحلات التجارية الكبيرة و الصغيرة ـ الجمعيات الاستهلاكية أيضا (!)، وذلك مادام ممكنا لهم التعامل مع إخوانهم من شعب الكنيسة، كما يجب أن ينبهوا دوماً إلى مقاطعة صنّاع المسلمين وحرفييهم والاستعاضة عنهم بالصناع و الحرفيين النصارى، و لو كلفهم ذلك الانتقال و الجهد و المشقة ..
“ ثم قال البابا شنودة: إن هذا الأمر بالغ الأهمية لتخطيطنا العام في المدى القريب و البعيد ..
“ ثالثاً: تعليم شعب الكنيسة: ..
“ قال البابا شنودة: إنه يجب فيما يتعلق بالتعليم العام للشعب المسيحي الاستمرار في السياسة التعليمية المتبعة حالياً مع مضاعفة الجهد في ذلك، خاصة و أن بعض المساجد شرعت تقوم بمهام تعليمية كالتي نقوم بها في كنائسنا، الأمر الذي سيجعل مضاعفة الجهد المبذول حالياً أمراً حتمياً حتى تستمر النسبة التي يمكن الظفر بها من مقاعد الجامعة وخاصة الكليات العملية . ثم قال: إني إذ أهنئ شعب الكنيسة خاصة المدرسين منهم على هذا الجهد وهذه النتائج، إذ وصلت نسبتنا في بعض الوظائف الهامة والخطيرة كالطب والصيدلة والهندسة وغيرها أكثر من 60% (!) إني إذ أهنئهم أدعو لهم يسوع المسيح الرب المخلص أن يمنحهم بركاته و توفيقه، حتى يواصلوا الجهد لزيادة هذه النسبة في المستقبل القريب ..
“ رابعاً: التبشير: ..
“ قال البابا شنودة:كذلك فإنه يجب مضاعفة الجهود التبشيرية الحالية، إذ أن الخطة التبشيرية التي وضعت بنيت على أساس هدف اتُّفق عليه للمرحلة القادمة، وهو زحزحة أكبر عدد من المسلمين عن دينهم والتمسك به، على ألا يكون من الضروري اعتناقهم المسيحية، فإن الهدف هو زعزعة الدين في نفوسهم، وتشكيك الجموع الغفيرة منهم في كتابهم وصدق محمد، ومن ثم يجب عمل كل الطرق واستغلال كل الإمكانيات الكنسية للتشكيك في القرآن و إثبات بطلانه و تكذيب محمد ..
“ وإذا أفلحنا في تنفيذ هذا المخطط التبشيري في المرحلة المقبلة، فإننا نكون قد نجحنا في إزاحة هذه الفئات من طريقنا، و إن لم تكن هذه الفئات مستقبلاً معنا فلن تكون علينا ..
“ غير أنه ينبغي ان يراعي في تنفيذ هذا المخطط التبشيري أن يتم بطريقة هادئة لبقة وذكية ؛ حتى لا يكون سبباً في إثارة حفيظة المسلمين أو يقظتهم ..
“ وإن الخطأ الذي وقع منا في المحاولات التبشيرية الأخيرة ـ التي نجح مبشرونا فيها في هداية عدد من المسلمين إلى الإيمان و الخلاص على يد الرب يسوع المخلص (!) ـ هو تسرب أنباء هذا النجاح إلى المسلمين، لأن ذلك من شأنه تنبيه المسلمين و إيقاظتهم من غفلتهم، و هذا أمر ثابت في تاريخهم الطويل معنا، و ليس هو بالأمر الهين، ومن شأن هذه اليقظة أن تفسد علينا مخططاتنا المدروسة، وتؤخر ثمارها وتضيع جهودنا، ولذا فقد أصدرت التعليمات الخاصة بهذا الأمر، وسننشرها في كل الكنائس لكي يتصرف جميع شعبنا مع المسلمين بطريقة ودية تمتص غضبهم وتقنعهم بكذب هذه الأنباء، كما سبق التنبيه على رعاة الكنائس والآباء والقساوسة بمشاركة المسلمين احتفالاتهم الدينية، وتهنئهم بأعيادهم، وإظهار المودة والمحبة لهم ..
“ وعلى شعب الكنيسة في المصالح و الوزارات والمؤسسات إظهار هذه الروح لمن يخالطونهم من المسلمين . ثم قال بالحرف الواحد: ..
“ إننا يجب أن ننتهز ما هم فيه من نكسة ومحنة لأن ذلك في صالحنا، ولن نستطيع إحراز أية مكاسب أو أي تقدم نحو هدفنا إذا انتهت المشكلة مع إسرائيل سواء بالسلم أو بالحرب “ ..
“ ثم هاجم من أسماهم بضعاف القلوب الذين يقدمون مصالحهم الخاصة على مجد شعب الرب و الكنيسة، وعلى تحقيق الهدف الذي يعمل له الشعب منذ عهد بعيد، وقال إنه لم يلتفت إلى هلعهم، و أصر أنه سيتقدم للحكومة رسمياً بالمطالب الواردة بعد، حيث إنه إذا لم يكسب شعب الكنيسة في هذه المرحلة مكاسب على المستوى الرسمي فربما لا يستطيع إحراز أي تقدم بعد ذلك ..
“ ثم قال بالحرف الواحد: وليعلم الجميع خاصة ضعاف القلوب أن القوى الكبرى في العالم تقف وراءنا ولسنا نعمل وحدنا، ولا بد من أن نحقق الهدف، لكن العامل الأول والخطير في الوصول إلى ما نريد هو وحدة شعب الكنيسة و تماسكه و ترابطه .. و لكن إذا تبددت هذه الوحدة و ذلك التماسك فلن تكون هناك قوة على وجه الأرض مهما عظم شأنها تستطيع مساعدتنا ..
“ ثم قال: ولن أنسى موقف هؤلاء الذين يريدون تفتيت وحدة شعب الكنيسة، وعليهم أن يبادروا فوراً بالتوبة وطلب الغفران والصفح، وألا يعودوا لمخالفتنا ومناقشة تشريعاتنا وأوامرنا، والرب يغفر لهم (وهو يشير بذلك إلى خلاف وقع بين بعض المسئولين منهم، إذ كان البعض يرى التريث وتأجيل تقديم المطالب المزعومة إلى الحكومة) ..
“ ثم عدد البابا شنودة المطالب التي صرح بها بأنه سوف يقدمها رسمياً إلى الحكومة: ..
“ 1 ـ أن يصبح مركز البابا الرسمي في البروتوكول السياسي بعد رئيس الجمهورية وقبل رئيس الوزراء ..
“ 2 ـ أن تخصص لهم 8 وزارات (أى يكون وزراؤها نصارى) ..
“ 3 ـ أن تخصص لهم ربع القيادات العليا في الجيش والبوليس ..
“ 4ـ أن تخصص لهم ربع المراكز القيادية المدنية، كرؤساء مجالس المؤسسات والشركات والمحافظين ووكلاء الوزارات والمديرين العامين ورؤساء مجالس المدن ..
“ 5 ـ أن يستشار البابا عند شغل هذه النسبة في الوزارات و المراكز العسكرية و المدنية، و يكون له حق ترشيح بعض العناصر و التعديل فيها ..
“ 6 ـ أن يسمح لهم بإنشاء جامعة خاصة بهم، وقد وضعت الكنيسة بالفعل تخطيط هذه الجامعة، و هي تضم المعاهد اللاهوتية الكليات العملية و النظرية، وتمول من مالهم الخاص ..
“ 7 ـ يسمح لهم بإقامة إذاعة من مالهم الخاص ..
“ ثم ختم حديثه بأن بشّر الحاضرين، وطلب إليهم نقل هذه البشرى لشعب الكنيسة، بأن أملهم الأكبر في عودة البلاد والأراضي إلى أصحابها من “ الغزاة المسلمين “ قد بات وشيكاً، وليس في ذلك أدنى غرابة ـ في زعمه ـ وضرب لهم مثلاً بأسبانيا النصرانية التي ظلت بأيدي “ المستعمرين المسلمين “ قرابة ثمانية قرون (800 سنة)، ثم استردها أصحابها النصارى، ثم قال وفي التاريخ المعاصر عادت أكثر من بلد إلى أهلها بعد أن طردوا منها منذ قرون طويلة جداً (واضح أن شنودة يقصد إسرائيل) وفي ختام الاجتماع أنهى حديثه ببعض الأدعية الدينية للمسيح الرب الذي يحميهم و يبارك خطواتهم “ .
بين يدى هذا التقرير المثير لا بد من كلمة، إن الوحدة الوطنية الرائعة بين مسلمى مصر وأقباطها يجب أن تبقى وأن تصان، وهى مفخرة تاريخية، ودليل جيد على ما تسديه السماحة من بر وقسط .
ونحن ندرك أن الصليبية تغص بهذا المظهر الطيب وتريد القضاء عليه، وليس بمستغرب أن تفلح فى إفساد بعض النفوس وفى رفعها إلى تعكير الصفو ..
وعلينا ـ والحالة هذه ـ أن نرأب كل صدع، ونطفئ كل فتنة، لكن ليس على حساب الإسلام والمسلمين، وليس كذلك على حساب الجمهور الطيب من المواطنين الأقباط .
وقد كنت أريد أن أتجاهل ما يصنع الأخ العزيز “ شنودة “ الرئيس الدينى لإخواننا الأقباط، غير أنى وجدت عدداً من توجيهاته قد أخذ طريقه إلى الحياة العملية .
الحقائق تتكلم
ـ فقد قاطع الأقباط مكاتب تنظيم الأسرة تقريباً .
ـ ونفذوا بحزم خطة تكثير عددهم فى الوقت الذى تنفذ فيه بقوة وحماسة سياسة تقليل المسلمين .. وأعتقد أن الأقباط الآن يناهزون ثلاثة ملايين أى أنهم زادوا فى الفترة الأخيرة بنسبة ما بين 40 %، 50 % !!
ـ ثم إن الأديرة تحولت إلى مراكز تخطيط وتدريب ـ خصوصاً أديرة وادى النطرون التى يذهب إليها بابا الأقباط ولفيف من أعوانه المقربين، والتى يستقدم إليها الشباب القبطى من أقاصى البلاد لقضاء فترات معينة وتلقى توجيهات مريبة ..
ـ وفى سبيل إضفاء الطابع النصرانى على التراب المصرى، استغل الأخ العزيز “ شنودة “ ورطة البلاد فى نزاعها مع اليهود والاستعمار العالمى لبناء كنائس كثيرة لا يحتاج العابدون إليها ـ لوجود ما يغنى عنها ـ فماذا حدث ؟
لقد صدر خلال أغسطس وسبتمبر وأكتوبر سنة 1973 خمسون مرسوماً جمهورياً بإنشاء 50 كنيسة، يعلم الله أن أغلبها بنى للمباهاة وإظهار السطوة وإثبات الهيمنة فى مصر .
وقد تكون الدولة محرجة عندما أذنت بهذا العدد الذى لم يسبق له مثيل فى تاريخ مصر ..
لكننا نعرف المسئولين أن الأخ العزيز “ شنودة “ ! لن يرضى لأنه فى خطابه كشف عن نيته، وهى نية تسىء إلى الأقباط والمسلمين جميعاً ..
وقد نفى رئيس لجنة “ تقصى الحقائق “ أن يكون هذا الخطاب صادراً عن رئيس الأقباط .
ولما كان رئيس اللجنة ذا ميول “ شيوعية “ وتهجمه على الشرع الإسلامى معروف، فإن هذا النفى لا وزن له، ثم إنه ليس المتحدث الرسمى باسم الكنيسة المصرية ..
ومبلغ علمى أن الخطاب مسجل بصوت البابا نفسه ومحفوظ ويوجد الآن من يحاول تنفيذه كله .
نحن نريد الحفاظ على وحدة مصر الوطنية
ونحن نناشد الأقباط العقلاء أن يتريثوا وأن يأخذوا على أيدى سفهائهم وأن يبقوا بلادنا عامرة بالتسامح والوئام كما كان ديدنها من قرون طوال ..
وإذا كانت قاعدة “ لنا ما لكم وعلينا ما عليكم “ لا تقنع، فكثروا بعض ما لكم، وقللوا بعض ما عليكم شيئاً ما، شيئاً معقولاً، شيئاً يسهل التجاوز عنه والتماس المعاذير له !!
أما أن يحلم البعض بإزالتنا من بلدنا، ويضع لذلك خطة طويلة المدى، فذلك ما لا يطاق، وما نرجو عقلاء الأقباط أن يكفونا مؤونته، ونحن على أتم استعداد لأن ننسى .. وننسى ..
تقرير يفضح النيات المبيتة للإسلام
اقرأ معى هذا التقرير ..:
تقرير اللجنة المؤلفة برياسة السيد “ زكريا محيى الدين “ رئيس الوزراء فى حينه، بشأن القضاء على تفكير الإخوان، بناء على أوامر السيد الرئيس بتشكيل لجنة عليا، لدراسة واستعراض الوسائل التى استعملت، والنتائج التى تم التوصل إليها، بخصوص مكافحة جماعة الإخوان المسلمين المنحلة، ولوضع برنامج لأفضل الطرق التى يجب استعمالها فى مكافحة الإخوان بالمخابرات، والمباحث العامة، لبلوغ هدفين:
أ ـ غسل مخ الإخوان من أفكارهم .
ب ـ منع عدوى أفكارهم من الانتقال إلى غيرهم .
اجتمعت اللجنة المشكلة من:
1 ـ سيادة رئيس مجلس الوزراء
2 ـ السيد / قائد المخابرات العامة
3 ـ السيد / قائد المباحث الجنائية العسكرية
4 ـ السيد / مدير المباحث العامة
5 ـ السيد / مدير مكتب السيد المشير عبد الحكيم عامر
وذلك فى مبنى المخابرات العامة بكوبرى القبة، وعقدت عشرة اجتماعات متتالية وبعد دراسة كل التقارير والبيانات والإحصائيات السابقة، أمكن تلخيص المعلومات المجتمعة فى الآتى:
1 ـ تبين أن تدريس التاريخ الإسلامى فى المدارس للنشء بحالته القديمة يربط السياسة بالدين فى لا شعور كثير من التلاميذ منذ الصغر ويتتابع ظهور معتنقى الأفكار الإخوانية .
2 ـ صعوبة واستحالة التمييز بين أصحاب الميول والنزعات الدينية وبين معتنقى الأفكار الإخوانية، وسهولة وفجائية تحول الفئة الأولى إلى الفئة الثانية بتطرف أكبر .
3 ـ غالبية أفراد الإخوان عاش على وهم الطهارة، ولم يمارس الحياة الجماعية الحديثة، ويمكن اعتبارهم من هذه الناحية “ خام “ .
4 ـ غالبيتهم ذوو طاقة فكرية وقدرة تحمل ومثابرة كبيرة على العمل، وقد أدى ذلك إلى اطراد دائم وملموس فى تفوقهم فى المجالات العلمية والعملية التى يعيشون فيها وفى مستواهم الفكرى والعلمى والاجتماعى بالنسبة لأندادهم رغم أن جزءاً غير بسيط من وقتهم موجه لنشاطهم الخاص بدعوتهم (المشئومة) .
5 ـ هناك انعكاسات إيجابية سريعة تظهر عند تحرك كل منهم للعمل فى المحيط الذى يقتنع .
6 ـ تداخلهم فى بعض، ودوام اتصالهم الفردى ببعض وتزاورهم، والتعارف بين بعضهم البعض يؤدى إلى ثقة كل منهم فى الآخر ثقة كبيرة .
7 ـ هناك توافق روحى، وتقارب فكرى وسلوكى يجمع بينهم فى كل مكان حتى ولو لم تكن هناك صلة بينهم .
8 ـ رغم كل المحاولات التى بذلت منذ عام 1936 لإفهام العامة والخاصة بأنهم يتسترون وراء الدين لبلوغ أهداف سياسية إلا أن احتكاكهم الفردى بالشعب يؤدى إلى محو هذه الفكرة عنهم، رغم أنها بقيت بالنسبة لبعض زعمائهم .
9 ـ تزعمهم حرب العصابات سنة 1948 والقتال سنة 1951 رسب فى أفكار بعض الناس صورهم كأصحاب بطولات وطنية عملية، وليست دعائية فقط، بالإضافة إلى أن الأطماع الإسرائيلية والاستعمارية والشيوعية فى المنطقة لا تخفى أغراضها فى القضاء عليهم .
10 ـ نفورهم من كل من يعادى فكرتهم جعلهم لا يرتبطون بأى سياسة خارجية سواء كانت عربية أو شيوعية أو استعمارية، وهذا يوحى لمن ينظر فى ماضيهم أنهم ليسوا عملاء .
وبناء على ذلك رأت اللجنة أن الأسلوب الجديد فى المكافحة يجب أن يشمل أساساً بندين متداخلين وهما:
أ ـ محو فكرة ارتباط الدين الإسلامى بالسياسة .
ب ـ إبادة تدريجية مادية ومعنوية وفكرية للجيل القائم فصلاً من معتنقى الفكرة .
ويمكن تلخيص أسس الأسلوب الواجب استخدامه لبلوغ هذين الهدفين فى الآتى:
أولاً: سياسة وقائية عامة:
1 ـ تغيير مناهج تدريس التاريخ الإسلامى والدين فى المدارس وربطها بالمعتقدات الاشتراكية كأوضاع اجتماعية واقتصادية وليست سياسية . مع إبراز مفاسد الخلافة خاصة زمن العثمانيين وأن تقدم الغرب السريع إنما كان عقب هزيمة الكنيسة وإقصائها عن السياسة .
2 ـ التحرى الدقيق عن رسائل وكتب ونشرات ومقالات الإخوان المسلمين فى كل مكان ثم مصادرتها وإعدامها .
3 ـ يحرم بتاتاً قبول ذوى الإخوان وأقربائهم حتى الدرجة الثالثة فى القرابة من الانخراط فى السلك العسكرى أو البوليس أو السياسة، مع سرعة عزلة الموجودين من هؤلاء الأقرباء من هذه الأماكن أو نقلهم إلى الأماكن الأخرى فى حالة ثبوت ولائهم .
4 ـ مضاعفة الجهود المبذولة فى سياسة العمل الدائم على إفقاد الثقة بينهم وتحطيم وحدتهم بشتى الوسائل، وخاصة عن طريق إكراه البعض على كتابة تقارير عن زملائهم بخطهم، ثم مواجهة الآخر بما معها مع العمل، على منع كل من الطرفين من لقاء الآخر أطول فترة ممكنة لنزيد هوة انعدام الثقة بينهم .
5 ـ بعد دراسة عميقة لموضوع المتدينين من غير الإخوان، وهم الذين يمثلون “ الاحتياطى “ لهم وجد أن هناك حتمية طبيعية عملية لالتقاء الصنفين فى المدى الطويل، ووجد أنه من الأفضل أن يبدأ بتوحيد معاملتهم بمعاملة الإخوان قبل أن يفاجئونا كالعادة باتحادهم معهم علينا .
ومع افتراض احتمال كبير لوجود أبرياء منهم إلا أن التضحية بهم خير من التضحية بالثورة فى يوم ما على أيديهم .
ولصعوبة واستحالة التمييز بين الإخوان والمبتدئين بوجه عام فلا بد من وضع الجميع ضمن فئة واحدة ومراعاة ما يلى:
أ ـ تضييق فرص الظهور والعمل أمام المتدينين عموماً فى المجالات العلمية والعملية .
ب ـ محاسبتهم بشدة وباستمرار على أى لقاء فردى أو زيارات أو اجتماعات تحدث بينهم .
جـ ـ عزل المتدينين عموماً عن أى تنظيم أو اتحاد شعبى أو حكومى أو اجتماعى أو طلابى أو عمالى أو إعلامى.
د ـ التوقف عن السياسة السابقة فى السماح لأى متدين بالسفر للخارج للدراسة أو العمل حيث فشلت هذه السياسة فى تطوير معتقداتهم وسلوكهم، وعدد بسيط جداً منهم هو الذى تجاوب مع الحياة الأوربية فى البلاد التى سافروا إليها . أما غالبيتهم فإن من هبط منهم فى مكان بدأ ينظم فيه الاتصالات والصلوات الجماعية أو المحاضرات لنشر أفكاره .
هـ ـ التوقف عن سياسة استعمال المتدينين فى حرب الشيوعيين واستعمال الشيوعيين فى حربهم بغرض القضاء على الفئتين، حيث ثبت تفوق المتدينين فى هذا المجال، ولذلك يجب أن نعطى الفرص للشيوعيين لحربهم وحرب أفكارهم ومعتقداتهم، مع حرمان المتدينين من الأماكن الإعلامية .
و ـ تشويش الفكرة الشائعة عن الإخوان فى حرب فلسطين والقتال وتكرار النشر بالتلميح والتصريح عن اتصال الإنجليز بالهضيبى، وقيادة الإخوان، حتى يمكن غرس فكرة أنهم عملاء للاستعمار فى أذهان الجميع .
ز ـ الاستمرار فى سياسة محاولة الإيقاع بين الإخوان المقيمين فى الخارج وبين الحكومات العربية المختلفة وخاصة فى الدول الرجعية الإسلامية المرتبطة بالغرب، وذلك بأن يروج عنهم فى تلك الدول أنهم عناصر مخربة ومعادية لهم وأنهم يضرون بمصلحتها، وبهذا تسهل محاصرتهم فى الخارج أيضاً .
ثانياً:
استئصال السرطان الموجود الآن، وبالنسبة للإخوان الذين اعتقلوا أو سجنوا فى أى عهد من العهود يعتبرون جميعاً قد تمكنت منهم الفكرة كما يتمكن السرطان فى الجسم ولا يرجى شفاؤه، ولذا تجرى عملية استئصالهم كالآتى:
المرحلة الأولى:
إدخالهم فى سلسلة متصلة من المتاعب تبدأ بالاستيلاء أو وضع الحراسة على أموالهم وممتلكاتهم، ويتبع ذلك اعتقالهم وأثناء الاعتقال تستعمل معهم أشد أنواع الإهانة والعنف والتعذيب على مستوى فردى ودورى حتى يصيب الدور الجميع ثم يعاد وهكذا .
وفى نفس الوقت لا يتوقف التكدير على المستوى الجماعى بل يكون ملازماً للتأديب الفردى .
وهذه المرحلة إذا نفذت بدقة ستؤدى إلى:
بالنسبة للمعتقلين:
اهتزاز الأفكار فى عقولهم وانتشار الاضطرابات العصبية والنفسية والعاهات والأمراض بينهم .
بالنسبة لنسائهم:
سواء كن زوجات أو أخوات أو بنات فسوف يتحررن ويتمردن لغياب عائلهن، وحاجتهن المادية قد تؤدى لانزلاقهن .
بالنسبة للأولاد:
تضطر العائلات لغياب العائل ولحاجتها المادية إلى توقيف الأبناء عن الدراسة وتوجيههم للحرف والمهن، وبذلك يخلو جيل الموجهين المتعلم القادم ممن فى نفوسهم أى حقد أو أثر من آثار أفكار آبائهم .
المرحلة الثانية:
إعدام كل من ينظر إليه بينهم كداعية، ومن تظهر عليه الصلابة سواء داخل السجون أو المعتقلات أو بالمحاكمات، ثم الإفراج عنهم بحيث يكون الإفراج عنهم على دفعات، مع عمل الدعاية اللازمة لكى تنتشر أنباء العفو عنهم ليكون ذلك سلاحاً يمكن استعماله ضدهم من جديد فى حالة الرغبة فى إعادة اعتقالهم .
وإذا أحسن تنفيذ هذه المرحلة مع المرحلة السابقة فستكون النتائج كما يلى:
1 ـ يخرج المعفو عنه إلى الحياة فإن كان طالباً فقد تأخر عن أقرانه، ويمكن أن يفصل من دراسته ويحرم من متابعة تعليمه .
2 ـ إن كان موظفاً أو عاملاً فقد تقدم زملاؤه وترقوا وهو قابع مكانه .
3 ـ إن كان تاجراً فقد أفلست تجارته، ويمكن أن يحرم من مزاولة تجارته .
4 ـ إن كان مزارعاً فلن يجد أرضاً يزرعها حيث وقعت تحت الحراسة أو صدر قرار استيلاء عليها .
وسوف تشترك الفئات المعفو عنها جميعها فى الآتى:
1 ـ الضعف الجسمانى والصحى، والسعى المستمر خلف العلاج والشعور المستمر بالضعف المانع من أية مقاومة .
2 ـ الشعور العميق بالنكبات التى جرتها عليهم دعوة الإخوان وكراهية الفكرة والنقمة عليها .
3 ـ انعدام ثقة كل منهم فى الآخر، وهى نقطة لها أهميتها فى انعزالهم عن المجتمع وانطوائهم على أنفسهم .
4 ـ خروجهم بعائلاتهم من مستوى اجتماعى أعلى إلى مستوى اجتماعى أدنى نتيجة لعوامل الإفقار التى أحاطت بهم .
5 ـ تمرد نسائهم وثورتهن على تقاليدهم، وفى هذا إذلال فكرى ومعنوى لكون النساء فى بيوتهن يخالف سلوكهن أفكارهم، ونظراً للضعف الجسمانى والمادى لا يمكنهم الاعتراض .
6 ـ كثرة الديون عليهم نتيجة لتوقف إيراداتهم واستمرار مصروفات عائلاتهم .
النتائج الإيجابية لهذه السياسة هى:
1 ـ الضباط والجنود الذين يقومون بتنفيذ هذه السياسة سواء من الجيش أو البوليس سيعتبرون فئة جديدة ارتبط مصيرها بمصير هذا الحكم القائم حيث يستشعرون عقب التنفيذ أنهم (أى الضباط والجنود) فى حاجة إلى نظام الحكم القائم ليحميه من أى عمل انتقامى قد يقوم به الإخوان للثأر .
2 ـ إثارة الرعب فى نفس كل من تسول له نفسه القيام بمعارضة فكرية للحكم القائم .
3 ـ وجود الشعور الدائم بأن المخابرات تشعر بكل صغيرة وكبيرة وأن المعارضين لن يستتروا وسيكون مصيرهم أسوأ مصير .
4 ـ محول فكرة ارتباط السياسة بالدين الإسلامى .
انتهى ويعرض على السيد الرئيس جمال عبد الناصر
إمضاء
السيد / رئيس مجلس الوزراء
السيد / قائد المخابرات
السيد / قائد المباحث الجنائية العسكرية
السيد / مدير المباحث العامة
السيد / شمس بدران
أوافق على اقتراحات اللجنة .
جمال عبد الناصر
هذا تقرير ردىء، وقع فى الخلط الذى حذرنا منه، ونلاحظ عليه ثلاثة أمور:
ـ أن الخصومة بلغت حد اللدد والعنت، وسنؤخر الحديث فى حقيقة ما وقع إلى آخر هذا الفصل .
ـ أن عاطفة التدين أمست موضع اتهام، وأن المتدينين جملة لا يرتاح إليهم .
ـ أن باب المسخ والتحريف الإسلامى نفسه انفتح على مصراعيه، والمتأمل فى أسماء واضعى التقرير يرى أن أغلبهم يسارى النزعة، وهم فى السجون الآن لمحاولات آثمة ارتكبوها ضد حركة التصحيح التى قادها الرئيس أنور السادات ..
لقد اتجه الهدم إذن إلى أعمدة الفكر الإسلامى نفسه، وانفسح المجال أمام كل أفاك ليقول ما عنده وهو آمن، على حين احتبست أصوات المؤمنين فى حلوقهم .
ولم يتحرك فى ميدان الدين كله إلا واحد من رجلين: إما مسلم منحرف يضر الإسلام ولا ينفعه، أو نصرانى ذكى اهتبل الفرصة فامتد إلى ما قصرت عنه آمال أسلافه من ألف عام ..
وظهر المسلمون وكأنهم فى أعقاب غارة عاتية أكلت الأخضر واليابس .
ولنشرع فى إيضاح الأمور التى لاحظناها على التقرير الآنف بادئين بآخرها الذى يمس التاريخ الإسلامى.
صور من الهجوم على الإسلام ذاته، تحقير الماضى، تزوير التاريخ
ظهرت حركة تحقير “ للماضى “ وصرف للشباب عنه وعن القيم التى يحتويها .
ترجم الدكتور زكى نجيب محمود عن ذلك فى مقال نشرته جريدة “ الأهرام “ جاء فيه أن بناء الإنسان العربى فى العصر الحديث لا يجوز أن يعتمد على ما كان أى على قال فلان وروى علان ..!!
من المقصود بهذا الكلام المرسل ؟
من الذين يعتمدون على القول والرواية فى مجتمعنا ؟
إن الرجل يطلب فى إجمال ترك القرآن والسنة، وإذا لم يصرح بذلك فلأنه حدد هدفه وصرح به فى مقال آخر عندما أوصى بقراءة كتاب “ رأس المال “ لكارل ماركس .
ونحن المسلمين تعلمنا فى كتابنا احترام “ الحقيقة “ بغض النظر عن زمان ماض أو قادم، فلا الحقيقة يشينها أنها من نتاج الأوائل، ولا الخرافة يزكيها أنها من إنتاج المعاصرين ..
ومن بيع الماء للسقائين ـ كما يقول العامة ـ أن ينصح ناصح الإسلام والمسلمين بعدم التعويل على الماضى عند وزن الحقائق، كيف والقرآن الكريم يعيب المقلدين الجامدين فيقول:
“ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون “ (المائدة: 104)
ولكن الماضى يعاب يوم يكون أمجاد الإسلام وهداياته، ويترك ليؤثر فى الكيان الدولى يوم يكون إقامة لإسرائيل وإحياء لترهات العهد القديم !!
أما الدكتور “ فؤاد زكريا “ فيربط بين تقديس الماضى والنظام الإقطاعى فيقول: “ إن زمام السيطرة فى هذا المجتمع يقع فى قبضة أناس يتجهون بحكم وضعهم الاجتماعى إلى تكريم الأسلاف والإشادة بماضيهم، فلذلك الإقطاعى الكبير يدين بثروته ونفوذه فى معظم الأحيان للوراثة ..
“ وهكذا فإن أمجاده كلها مرتبطة بالماضى، وكل قيمة للحاضر إنما تستمد ـ فى نظره ـ من علاقته بهذا الماضى . ولما كان الأعيان الإقطاعيون هم المسيطرين فى هذا المجتمع فإن طرق تفكيرهم وقيمهم الأخلاقية هى التى تنتشر وتطبع صورتها على المجتمع ككل ! ..
“ ومن هنا تتعلق الأذهان فى مثل هذا المجتمع بالماضى، وتنظر إلى المستقبل بعين الارتياب، بل إنها لا ترضى عن الحاضر ذاته إلا بقدر ما يكون انعكاساً للماضى .. “ .
إننى تحيرت فى بواعث هذا الكلام، هل الشكوى من التعلق بالماضى تعود إلى تشبث الملاك الكبار والصغار بوسائل عقيمة فى الإنتاج ؟
واقع بلادنا ينطق بغير هذا .
إذن ما القصد من مهاجمة الماضى ورفض امتداده فى الحاضر ؟
ومضيت فى قراءة كتاب “ الجوانب الفكرية للنظم الاجتماعية “ الذى ألفه الدكتور “ فؤاد زكريا “ فإذا هو يتحدث عن تأثير المصالح الإقطاعية فى التصورات الدينية فيقول إنها “ أسهمت بدورها فى تشكيل عقول الأفراد بصورة مميزة: تلك هى إدخال نوع من التفاوت أو التسلسل فى المراتب فى المجال الروحى ذاته . فهناك مجتمعات تتصور الألوهية عالية مترفعة عن عالم البشر، وتقيم نوعاً من تدرج المراتب بين هذه الألوهية وعام الناس، فبعد الله يأتى الأنبياء والقديسون، ثم كبار الكهنة ورجال الدين، ويندرج الترتيب بعد ذلك حتى يصل آخر الأمر إلى الإنسان العادى . ولا بد فى الارتقاء إلى كل مرحلة من هذه المراحل من المرور بالمراحل السابقة، أى أن الإنسان العادى لا يستطيع مثلاً أن يتقرب إلى الله أو يحظى بالشفاعة من أحد القديسين إلا عن طريق الكاهن الذى يتوسط بينه وبينهم ..
“ بالتدرج وتفاوت المراتب أن هناك نظرات أخرى إلى الدين تختفى فيها هذه الحواجز، ويشيع فيها التقارب بين الله والإنسان !! إذ يعد الله قريباً من البشر مستجيباً ومعيناً لهم، بل إن بعض المذاهب الدينية تؤكد حلول الله فى العالم، وإمكان اتحاد الإنسان به إذا هو ارتقى إلى مستوى معين من الروحانية !! هذه الفكرة الأخيرة ترتبط بنظرة أكثر ديمقراطية إلى المجتمع ..
“ والدليل على أن هذه النظرة إلى الدين انعكاس لنظام اجتماعى يتسم بالديمقراطية على حين أن فكرة تسلسل المراتب من الأعلى إلى الأدنى كانت البشرى لأنها لا ترتكز على تأكيد الفوارق فى المرتبة بين الموجودات .. وبالفعل سادت هذه النظرة فى العصور التى كانت أقرب إلى روح مقترنة بالفوارق التى هى أولى خصائص المجتمع
الإقطاعى .. “ .
أى أن الدين قد يكون إنتاجاً إقطاعياً أو إنتاجاً ديمقراطياً !! فحيث توجد فوارق بين الله والناس فالدين اختراع الإقطاعيين، أما حيث تقل الفوارق ويمكن أن يتحد الإنسان مع الله فالدين اختراع الديمقراطيين !!
هذه هى فكرة أستاذ فلسفة عن الدين يقدمها لطلابه فى كلية آداب عين شمس .
فما تكون إذن تصورات الأطفال والبله عن حقائق الأديان ؟؟
ظاهر أن الدكتور شيوعى، وأن حديثه الغامض عن الماضى وتقديس الأسلاف إنما هو لصرف الطلاب المسلمين عن النهر الذى يستقون منه، لأن منابعه هناك فى الماضى القديم .
هل الأمانة العلمية تقتضى تدريس الباطل وحده ؟ أم يدرس الحق والباطل معاً ويترك للطلاب حرية الموازنة والاختيار .
لكن أساتذة الفلسفة الذين ذكرناهم هنا لم يجشموا أنفسهم عبء الاطلاع على الفكر الإسلامى فى مظانه المعروفة وانطلقوا فى طريقهم يدمرون مستقبل أمة وهم آمنون .
بل لعلهم كانوا يفعلون ذلك وهم ينفذون خطة مرسومة، ويرقبون من ورائها الرضا والانتفاع .
وشعبة أخرى حاذت هذه الشعبة الفلسفية فى نبذ الماضى . علام تقوم ؟ تقوم على تزوير التاريخ الإسلامى والسيرة النبوية أجمع ابتداء من دولة الخلافة إلى يوم الناس هذا ..
وهدف هذه الشعبة الفكرية إبراز “ محمد “ إنساناً عادياً، أو قائد انقلاب اقتصادى يسارى على نحو ما صنع أو حاول أن يصنع “ جيفارا “ .
وقد كتب السيد عبد الرحمن الشرقاوى ـ وهو شيوعى معروف ـ سيرة على هذا النسق حشاها بالدس والتدليس العلمى وتوجيه الأحداث بعنف فى غير مسارها .
وأصدرت مجلة الأزهر عدداً يحتوى جملة مقالات فضحت هذه السيرة السيئة، وحذرت منها دون جدوى .
وقد تعرض السيرة الشريفة من خلال نظرات استشراقية واتهامات تبشيرية من غير كشف لتهافت هذه النظرات والاتهامات .
ولا بأس أن يعرض الفتح الإسلامى، وكأن العرب أسراب جراد منطلق فى الأودية اليانعة ليأتى على ما فيها .. أما تحريرهم للشعوب المسترقة وتحطيمهم للقوتين العظيمتين المنتفختين بالجبروت والاستعلاء فهذا ما لا يقال ؟!
وقد ينسب للعرب ـ امتناناً عليهم ـ أنهم نقلوا حضارة الأقدمين إلى العصور الوسطى، أما أنهم أصحاب حضارة مقدورة ورسالة هادية ومدنية راقية فلا ..
وفى كلية آداب عين شمس كان التاريخ يدرس على هذا النحو !!
مساكين طلابنا الذين راحوا ضحية هذا الإرهاب الفكرى فى مرحلة “ جأر “ فيها الضلال “ وخرس “ فيها الحق !!
كتب أخونا “ على عبد العظيم “ هذا التقرير عن كتاب ألفه الدكتور “ عبد المنعم ماجد “ وأسماه “ التاريخ السياسى للدولة العربية “ ننشر نصه كاملاً لما له من دلالة . قال:
“ المؤلف من أعضاء هيئة التدريس بكلية الآداب بجامعة عين شمس، وكان عليه أن يقدر المسئولية وأن يرعى الأمانة العلمية، وأن يعتمد فى أبحاثه ودراساته على المراجع التاريخية الأصلية التى عاصر مؤلفوها الأحداث أو نقلوها بأمانة عمن عاصرها وشارك فى أحداثها، ولكنه اعتمد على المبشرين والمستشرقين المتعصبين الذين تمتلئ قلوبهم بالأحقاد المتوارثة على الإسلام والمسلمين والذين أعمتهم العصبية الحمقاء فأضلتهم سواء السبيل ..
“ ومن الغريب أنه يسرد آراءهم دون مراجعة أو تمحيص، وينقلها كأنها حقائق ثابتة، ويلقنها لتلاميذه ويلزمهم بها كأنها أحكام صحيحة لا تحتمل البحث أو الجدال، وليس هذا شأن الأساتذة الجامعيين الذين يرعون الأمانة ويقدرون المسئولية ويتحرون الحقائق من مصادرها الأصيلة، ويراجعون أنفسهم مراجعة دقيقة قبل إصدار الأحكام الحاسمة التى تشوه التاريخ العربى وتلطخ القيم الإسلامية العليا بأبشع الأكاذيب والمفتريات ..
“ ولو كان الأمر مقصوراً على كتاب يؤلفه صاحبه ويحشوه بما يشاء من آراء المنحرفين المتعصبين لهان الأمر، ولكنه كتاب جامعى مفروض على طلبة الكلية فرضاً منذ سنوات يتلقاه الطلبة عن أستاذهم واثقين به ليرددوا ما فيه ـ بعد ذلك ـ على عشرات الآلاف من تلاميذهم فى التعليم العام عاماً بعد عام “ .
والمؤلف يعلم أن هناك مستشرقين منصفين، درسوا الحضارة الإسلامية والتاريخ العربى دراسة علمية عميقة بعيدة عن الهوى والتعصب، وأنصفوا العرب والمسلمين، وعززوا آراءهم بالأدلة الحاسمة والبراهين القاطعة معتمدين على الآثار الإسلامية الباقية والتراث العربى الخالد، ولكن المؤلف تحاماهم جميعاً واستباح لنفسه أن يسرد آراء المتعصبين الحاقدين دون دليل أو برهان كأنه يشفى غليلاً فى نفسه أو يشيع ما حملته طبيعته من بواعث الهدم والتدمير، ومن الخير أن نسوق بعض الأحكام التى ملأ بها الكاتب صفحات كتابه دون نقد أو تمحيص:
أولاً:
صفحة 60، 61 من الجزء الأول: “ كان بعض الأعراب يذبحون الكلاب كقبيلة أسد أو يأكلون لحوم الناس كقبيلة هذيل .. كما أن بعض الأعراب كانوا يأكلون الحيات والعقارب والجعلان والخنافس أو حتى القمل “ .
ثانياً:
يذكر المؤلف فى صفحة 94، 95 أن تاريخ ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم غير معروف بالضبط، ويتشكك فى ربطه بعام الفيل، ويوحى بأن ذلك ناشىء عن محاولة الربط بين مولده وهذا الحادث القومى بالنسبة لقريش، ومن الغريب أن يعتمد فى ذلك على معجم البلدان لياقوت، وهو كتاب متأخر ويعتبر من الكتب الجغرافية لا التاريخية، كما يعتمد على ثلاثة مراجع فرنسية، يفعل هذا على حين يترك المصادر التاريخية المتقدمة الأصيلة مثل تاريخ الطبرى وسيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد وفتوح البلدان والروض الأنف ..
ثالثاً:
فى صفحة 198 من الجزء الأول يقول المؤلف: “ وفجأة فى سن الأربعين يملك محمد موهبة النبوة “ وهذا التعبير غير لائق بجلال النبوة، فإنها ليست موهبة فطرية كالمواهب الأخرى، ولكنها اصطفاء من الله للأخيار الذين اجتباهم من عباده المخلصين .
رابعاً:
يستبيح المؤلف لنفسه أن يسرد عبارات تصف القرآن بأنه من صياغة محمد صلى الله عليه وسلم مثل قوله فى صفحة 99 من الجزء الأول: “ ومع ذلك فلم يرد على لسان النبى فى القرآن .. “ ويقول فى صفحة 125: “ وقد أناب فيه أبا بكر صديقه ليقرأ عليهم سورة براءة التى يتبرأ فيها محمد ممن يحج من المشركين “ وكأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الذى ألف هذه السورة ليتبرأ فيها من المشركين مع أن أول السورة “ براءة من الله ورسوله “ .
خامساً:
فى صفحة 250 يصدر المؤلف حكماً غريباً يهدم الشريعة الإسلامية من أساسها، حيث يقرر أن الوحى كان يتم فى المنام، وكأنه أضغاث أحلام فيقول عن الوحى: “ إنه كان ينزل عليه وهو نائم “ .
سادساً:
يدعى فى صفحة 250 أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ “ كان ينسخ بعض الآيات ويأتى بأخرى محلها “ وكأنه هو الذى ألف القرآن ثم أجرى فيه بعض المحو والأثبات، وكأنه ليس وحياً سماوياً منزلاً .
على أن موضوع النسخ فى القرآن محل جدل بين علماء المسلمين، وعلى فرض ثبوته فهو من عند الله وحده وهو تدرج فى التشريع موحى به من عند الله لا من عند محمد ـ صلى الله عليه وسلم . قال تعالى: “ ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين، فما منكم من أحد عنه حاجزين “[الحاقة: 44ـ47]
سابعاً:
يذكر المؤلف فى صفحة 127، 128 من الجزء الأول عن رسالة النبى صلى الله عليه وسلم فيقول: “ وهو وإن كان أرسل إلى العرب إلا أنه اعتبر نفسه أنه مرسل إلى العرب وحدهم ولكنه تجاوز حده واعتبر نفسه رسولاً إلى كافة الناس “ .. وكأنما الأمر متروك إليه يقرر فيه ما يشاء من دلالة النصوص القرآنية وتواتر الأحاديث النبوية على رسالته إلى جميع الناس “ ليكون للعالمين نذيراً “ (الفرقان: 1) .
ثامناً:
فى صفحة 127 يذكر المؤلف أن رسالة المسيحية عامة وليست خاصة كاليهودية، والمؤلف هنا يخالف القرآن الكريم فى قوله تعالى: على لسان عيسى عليه السلام “ ورسولاً إلى بنى إسرائيل “ (آل عمران: 49) كما يخالف العهد الجديد حيث جاء فى إنجيل متى “ لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة “ (الاصحاح 15: 24) فالمؤلف ينقل آراء المستشرقين والمبشرين دون نقد أو تمحيص ولو خالفت القرآن الكريم والحديث الشريف .
تاسعاً:
يتحدث المؤلف فى صفحة 128 وما بعدها عن قضية البعث والحساب فيصوغها فى عبارات توحى بالسخرية والشك فيما رواه القرآن الكريم فيقول مثلاً: “ ويخرج الأموات من قبورهم ليقفوا أمام الله والملائكة ليحاكموهم “ وكأنها محكمة جماعية يتبادل فيها القضاة الآراء ويحكمون برأى الأغلبية، ولنا أن نتساءل ما علاقة هذا بالدراسة التاريخية ؟
والمؤلف متأثر بما كتبه صاحب كتاب “ الفن القصصى فى القرآن الكريم “ الذى رفضت جامعة القاهرة قبوله رسالة للدكتوراه، وكأنه مولع بنقل آراء الحائدين عن الصواب من شرقيين وغربيين .
عاشراً:
يقول المؤلف فى صفحة 123 أن الزكاة فى الإسلام ليست نوعاً من التضامن الاجتماعى كما فى وقتنا، وإنما هى حث على الشفقة والرحمة واستغلال فى الجهاد ونشر الدين، فهل الشفقة تتعارض والتضامن الاجتماعى ؟
إن القرآن الكريم لم يعتبر الزكاة إحساناً وإنما جعلها حقاً مفروضاً للسائل والمحروم، وقد حدد الإسلام مصارف الزكاة وليس فيها نص على الجهاد وحده ونشر الدين فحسب، وإنما هما يدخلان فى أحد وجوه الصرف الثمانية كما ذهب إليه بعض المفسرين .
حادى عشر:
ينفى المؤلف فى صفحة 134 أن “ الدين الإسلامى عالج نظم الحياة بنصوص صريحة “ وكل من له العلم بالتشريع الإسلامى يدرك بأدنى ملاحظة النصوص الصريحة التى تناولت جميع شئون الحياة من بيع وشراء وهبة ودين ووصية وزواج وميراث كما حددت الفضائل والرذائل والعلاقات الاجتماعية والنظم السياسية وشئون الحرب والسلام، كما تناولت أساليب الحكم والقضاء وحددت الجرائم والقصاص والحدود .. كما تناولت حقوق الإنسان قبل أن تحدده هيئة الأمم بأكثر من 13 قرناً .
ثم يكرر هذا الاتهام فى صفحة 138 فيقول: “ والواقع أن الإسلام لم يدع أنه بنى مجتمعاً فى غاية التنظيم “ !!! لقد كان العرب قبائل متناحرة متنافرة يحارب بعضها بعضاً لأتفه الأسباب، وما كان يمكن أن تتألف منها وحدة تامة، وما كان القرآن الكريم ينفذ إلى قلوب أفرادها حتى أصبحت أمة قوية متماسكة كالجسد الواحد أو البنيان المرصوص، قال تعالى: “ وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما فى الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف
بينهم “ وما تفرق شملهم إلا بعد أن تهاونوا فى التمسك بدينهم القويم وكتابهم الكريم .
ثانى عشر:
سرد المؤلف فى صفحة 134 ما يلوكه المبشرون من تعدد الزوجات دون مراجعة أو مناقشة أو تمحيص، وكأنه بوق يردد أصداء الحاقدين .
ثالث عشر:
فى صفحة 136 يذكر أن الإسلام حرم الربا لأن معظم القائمين به هم اليهود وكأن التشريع الإسلامى يقوم على الأغراض الشخصية وليس وحياً سماوياً يستهدف الصالح العام لجميع العالمين، ومن العجيب أن المؤلف يتناول الآيات القرآنية ويفسرها تفسيراً يدل على عدم فهمه لأسلوب القرآن العربى المبين فقد فسر المؤلف قوله تعالى: “ الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذى يتخبطه الشيطان من المس “ (البقرة: 275) وقد فسرها المؤلف بأن الآية تشبه “ آكل الربا بالشيطان “ (جزء 2، ص 275) مع أن الآية الكريمة واضحة بينة يفهمها العامة قبل الخاصة، ولكن سوء الفهم حجبه عن أنوار القرآن الكريم .
رابع عشر:
فى صفحة 145 يقول المؤلف: “ ولا ريب أن النبى نفسه تعب من استهتار العرب بالدين وعدم ميلهم إليه “ وهو تعبير يجافى الذوق السليم إزاء النبى صلى الله عليه وسلم الذى قضى حياته مكافحاً مناضلاً يتقدم الصفوف ويقود المسلمين فى مواطن الخطر دون أن يدركه ملل أو كلل ودون أن يخشى فى الله لومة لائم فكيف يتعب من الدعوة إلى الله .
خامس عشر:
لاحظنا أن المؤلف يلتزم نقل آراء المستشرقين ويتحمس لها، ولكنهم إذا أنصفوا الإسلام فى موقف ما أسرع إلى مخالفتهم وكأنه موكل بتشويه صفحة الإسلام الوضاءة وتلويث تراثه المجيد فنجده فى صفحة 163 يقول: “ لا نوافق بعض المستشرقين فى قولهم أن العرب كانوا مدفوعين نحو الفتوح بالحماس الدينى .. ولكن من غير المعقول أن يخرج البدوى ـ وهو الذى لا يهتم بالدين (!) ـ لنشر الإسلام “ .
ومن العجيب أن يقرر المستشرقون الحقيقة وينصفوا الفتوحات الإسلامية، ولكن المؤلف المسلم يخالفهم على غير عادته فيزعم أن الصحابة لا يهتمون بالدين، وأن الفتوحات الإسلامية كانت قائمة على النهب والسلب لا على نشر الإسلام .
سادس عشر:
ينكر المؤلف كعادته آثار التسامح الإسلامى فى تحرير الشعوب من أغلالها فيخالف آراء جميع المؤرخين العرب كما يخالف آراء جمهرة المستشرقين، ويكتفى برأى يوحنا النقيوس الذى انفرد بذكر مقاومة الأقباط فى مصر للفتح الإسلامى مدة 12 عاماً دون مناقشة أو دليل ليخلص من هذا إلى أن الفتوح الإسلامية كانت قائمة على النهب والسلب وإشباع شهوة سفك الدماء (ص 221 ـ 223) .
سابع عشر:
يذكر فى صفحة 180 أنه “ كان لانتصار المسلمين فى أجنادين وقع عظيم بحيث اعتقد المسلمون أن هذا النصر من عند الله “، وهى عبارة تصدم العقيدة الإسلامية فى الصميم، لقد انتصر المسلمون قبل أجنادين، فهل كانوا يعتقدون أن هذا النصر من عندهم لا من عند الله ؟
ولقد كانوا يحفظون القرآن الكريم وفيه قوله تعالى: “ وما النصر إلا من عند الله “ (الأنفال: 10)، ولو كان للمؤلف الأغر أدنى معرفة بالعقيدة الإسلامية لعلم أن النفع والضر بيد الله وحده وأن الإنسان لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله، فهل كان الصحابة ينكرون هذا ولم يعتقدوه إلا بعد انتصارهم فى أجنادين !!
ثامن عشر:
فى صفحة 227، 230 يرمى المؤلف الصحابة بالوحشية والإجرام فى فتوحاتهم الإسلامية، ويزعم أنهم كانوا قساة القلوب غلاظ الأكباد، لا يكتفون بحرق المزارع وهدم البيوت، وإنما يحاولون قهر الشعوب المفتوحة، وإرغامهم على دفع الجزية حتى ولو أسلموا، مخالفاً بذلك النصوص القرآنية والأحاديث النبوية وإجماع المؤرخين، ثم يشتط فى أحكامه فيزعم أن العرب فى فتحهم لبرقة وطرابلس اكتفوا بفرض الجزية وأجازوا لأهلها بيع أبنائهم ليدفعوا الجزية، ولو رجع إلى المصادر الوثيقة لعلم أن الجزية لا تفرض إلا على القادرين ـ من غير المسلمين ـ على دفعها، وأنها تقابل فريضة الزكاة عند المسلمين، وأنها تنفق لتحقيق الصالح العام للجميع لا للغزاة الفاتحين، ولكنه لا يريد أن يعلم وإنما يلتزم الباطل التزاماً . ومن هذا ما زعمه من أن المسلمين “ أرغموا أهل النوبة على أن يحملوا كل سنة إلى ولاة مصر 260 رأساً من الرقيق غير المعيب المتوسط العمر !! ولو كان للمؤلف الأغر أدنى إلمام بالثقافة الإسلامية لعلم حرص الإسلام الشديد على تحرير الرقاب وأنه أهاب بالمسلمين أن يتقربوا إلى الله بتحرير الرقيق أى الرقاب، وأنه جعل هذا العتق كفارة بعض الذنوب وأنه رصد جزءاً من صدقات المسلمين لإنفاقها فى تحرير الرقاب قال تعالى: “ فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة: فك رقبة .. “ (البلد: 11 ـ 13) ولكن المؤلف يجهل أحياناً ويتجاهل فى معظم الأحيان .
المؤلف مولع بتشويه صفحات الفتوحات الإسلامية بكل الوسائل، وهو يستبيح فى سبيل إشباع شهوته نقل الأساطير الوهمية، وهو يسوقها دون مناقشة أو جدال كما قال فى صفحة 204 من الجزء 2 عن فتح المسلمين للأندلس “ قيل إنهم طبخوا أول من قتلوه فى القدور “ ولو كان المؤلف مؤرخاً حقاً لدرس الفتح الأندلسى دراسة جادة، فعلم أن الأهالى ساعدوا العرب مساعدة قيمة للتخلص من حكم طاغيتهم المستبد لذريق، ولو كان المؤلف جاداً فيما يكتب ما اعتمد على الأساطير والخرافات، ولعلم أن المسلمين حريصون على تحرير الشعوب، ولكنه حريص على أن يصور المسلمين وحوشاً مفترسة من آكلى البشر، ولو كان المؤلف قد نال قسطاً يسيراً من الثقافة الإسلامية لتذكر وصية النبى صلى الله عليه وسلم للمجاهدين من الصحابة ومن تلاهم: “ لا تقطعوا شجراً ولا تقتلوا طفلاً ولا امرأة ولا شيخاً ولا تهدموا بيتاً “ ويظهر أن المؤلف الأغر لا يأخذ بالقرآن الكريم ولا بالحديث الشريف وإن ذكرهما فى مصادره للتمويه والتضليل .
عشرون:
المؤلف مهتم كل الاهتمام بتشويه سيرة الصحابة رضوان الله عليهم، فهو يرمى عمر بأنه كان يخشى الرجال الأشداء فينحيهم عن مناصب القيادة (صفحة 183) ويكرر هذا فى صفحة 200 ليبرر عزله خالداً أو المثنى بن حارثة، ونسأل المؤلف الأغر: هل نحى عمر أبا عبيدة وسعد بن أبى وقاص وعمرو بن العاص وغيرهم من كبار القادة الأقوياء عن مناصبهم ؟
وشبيه بهذا ما ذكره عن الإمام الحسن رضى الله عنه ناقلاً ما ذكره خصومه من الأمويين وطائفة من المبشرين والمستشرقين حيث يقول فى صفحة 2 من الجزء الثانى: “ فلعل وفاة الحسن كانت بسبب إسرافه فى حياة
اللهو .. “ ويتناسى أنه سبط الرسول صلى الله عليه وسلم وسيد شباب أهل الجنة، وأن الله سبحانه وتعالى أنزل فيه وفى أسرته: “ يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً “، نعم يتناسى أن هناك رأياً قوياً فى التاريخ الإسلامى مؤداه أن معاوية أغوى امرأة الحسن بسمه على أن يزوجها ابنه يزيد فلما أقدمت على فعلتها النكراء واتته تستنجزه وعده راغ منها وأرضاها ببعض المال، فالحسن على هذه الرواية قتيل السياسة الأموية الدنيوية لا قتيل الشهوات الدنية . لكن مصادر الإسلام الصحيحة والراجحة من قرآن وسنة وخبر صادق وراجح لا ترقى لمستوى مطاعن المبشرين والمستشرقين عند هذا المؤرخ “ المسلم “ !
واحد وعشرون:
يستبيح المؤلف لنفسه أن يهب النبوة لمن يشاء ويسلبها ممن يشاء، فهو يمنح “ زرادشت “ النبوة دون سند حيث يقول فى صفحة 194 من الجزء الأول “ وكان رسول هذه الديانة نبى اسمه زرادشت “ على حين ينكر النبوة على إدريس عليه السلام جاهلاً أو متجاهلاً قوله تعالى: “ واذكر فى الكتاب إدريس إنه كان صديقاً نبياً ورفعناه مكاناً علياً “ (مريم: 56) .
اثنان وعشرون:
المؤلف يلتزم التعبير المجافى للذوق السليم، فضلاً عن مجافاته للتعبير، فهو يذكر “ الفتح العربى “ بدلاً من الفتح الإسلامى، ويذكر “ الدين العربى “ بدلاً من الدين الإسلامى، وكأن الفتح الإسلامى كان مقصوراً على العرب وحدهم ولم يكن موجهاً إلى العالمين، وما سمح لنفسه قط أن يتبع ذكر محمد بالعبارة المأثورة “ صلى الله عليه وسلم “ والله تعالى يقول: “ إن الله وملائكته يصلون على النبى، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً “ (الأحزاب: 56) وإذا كان المؤلف لا يعد نفسه من “ الذين آمنوا “ فهو يخاطب قوماً مؤمنين، فإن فاته أدب الإيمان فلا يفوتنه أدب الخطاب !
وقد حرص المؤلف الأغر على طبع كتابه فى بيروت خشية أن يلاحقه الرقيب فى مصر، وفرضه على تلاميذه منذ خمس سنوات، وفاته أن عين الله لا تغفل وأن الذين يلحدون فى آياته لا يخفون عليه .
ولعل هناك صلة بين كتابه وكتب التبشير الصادرة فى بيروت، ولو اجتهد المؤلف فأخطأ مرة وأصاب مرات لالتمسنا له العذر ولكنه ـ وا أسفاه ـ لا يجتهد ولا يبحث، وإنما هو ناسخ فحسب، يتعمد نقل ما يشوه القيم الإسلامية المثالية ويرتمى على أقدام المبشرين والمستشرقين المتعصبين، ويمعن كل الإمعان فى التفاهة والضلال .
وكأنه يعيش فى دولة غير إسلامية ينص دستورها على أن دينها هو الإسلام وينادى رئيسها بشعار “ دولة العلم والإيمان “ .
إن بقاء هذا المؤلف بين أعضاء هيئة التدريس بكلية آداب عين شمس خطر على البحث العلمى والأمانة التاريخية والفضائل الخلقية والتراث الإسلامى المجيد “ .
“ على عبد العظيم “
وندع هذا التحامل الجهول على تراثنا وتاريخنا، ونستعرض لوناً آخر من تزوير الحقائق وتضليل الأجيال وتحريف الكلم عن مواضعه لخدمة الإلحاد والاستعمار بدعوى القومية العربية أو الوطنية المصرية .
/ شبهات أخرى
أتانا وافد من “ أسيوط “ بوريقات تضمنت عشرات المطاعن ضد الإسلام، كتبها شخص يدعى “ كميل جرجس “ وجمع عليها بعض طلاب الجامعة !
وتصفحت على عجل مختلف الموضوعات التى تعرض لها الكاتب، ورأيت أنها تحتاج إلى رد وبيان، وسيعرف القراء قيمتها عندما نذكرها .
وقد أسافر إلى أسيوط لأحسم العلة من جذورها، ويكفى هنا أن أسوق أمثلة لما يشاع عن ديننا، ويجد طريقه ممهوداً إلى أدمغة القاصرين !!
غلطة فلكية !
كذَّب الكاتب قوله تعالى: “ والشمس تجرى لمستقر لها “ وزعم أن ذلك يخالف العلم ..
أى علم ؟!
.. إن جريان الشمس من أسرتها المعروفة فى فضاء الله الواسع مقرر فلكياً، لم ينكره أحد قط،
ولكن “ عبقرى أسيوط “ يريد تكذيب القرآن، فحكى دورة الأرض حول محورها، ودورتها حول أمها الشمس، ثم قال: “ من هذا يتضح أن الشمس لا تجرى ولا تذهب لتسجد تحت العرش، وأنها لا تغرب فى عين حمئة .. “ .
والاستنتاج مضحك فقد فهم العبقرى أن دوران الأرض حول الشمس يعنى أن الشمس ثابتة، وفهم من قوله تعالى: “ وجدها تغرب فى عين حمئة “ أن الشمس تغطس فى الماء يومياً ثم تخرج !!
ولم يدرك ما يعرفه الأطفال عندنا أن اختفاء قرص الشمس فى الماء إنما هو فى عين الرائى لا فى حقيقة الأمر !!
أما أن الشمس تسجد لربها، فإن الجماد والنبات والحيوان والكائنات جمعاء خاضعة لله، تسبح بحمده، وتهتف بمجده، وتلبى أمره، وهى طوع مشيئته ..
ويوم لا يأذن للشمس فى الشروق، وينهى أمر الدنيا، ويفتح يوم الحساب، فمن الذى يعصيه ؟
ويظهر أن المسكين فهم من سجود الشمس أنها تصلى ركعتين كسائر البشر !! “ ألم تر أن الله يسجد له من فى السموات ومن فى الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس. وكثير حق عليه العذاب . ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء “ (الروم: 24) .
الكسوف والخسوف
قال الكاتب: “ جاء فى سورة الروم: “ ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً، وينزل من السماء ماء فيحيى به الأرض بعد موتها، إن فى ذلك لآيات لقوم يعقلون “ .
“ وروى البخارى فى صحيحه عن أبى موسى الأشعرى قال: خسفت الشمس فقام النبى فزعاً يخشى أن تقوم الساعة فأتى المسجد فصلى بأطول قيام وركوع وسجود، ما رأيته قط يفعله، وقال: “ هذه الآيات التى يرسل الله لا تكون لموت أحد ولا حياته، ولكن يخوف الله بها عباده، فإذا رأيتم شيئاً من ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره “ . (البخارى) .
وبعد أن ذكر الكاتب التفسير العلمى للبرق، والكسوف، والخسوف كما هو مقرر فى الكتب المدرسية قال: “ إذن فالواضح أنه ليس الهدف من البرق أن يخوف الله البشر، أو الهدف من الكسوف ما ظنه البعض بجهالة أنه لموت إبراهيم (ابن النبى)، أو خشية قيام الساعة بل الأمر مجرد ظواهر طبيعية عادية، وهذا هو فضل العلم الحديث على البشرية جمعاء، ولكنهم لم يكونوا يدركون ذلك بعد، وكان تفسيرهم لتلك الظواهر نابعاً من استنتاجات محدودة “ .
ونقول: هذه الظواهر الطبيعية العادية كما يسميها الكاتب هى آيات الله فى منطق المؤمنين به .. فحياة الأرض بعد نزول الماء آية وإن سماها ظاهرة طبيعية، والتفريغ الكهربى الناشئ من تلاقى السحب آية سواء أحدث صوت الرعد أم ضوء البرق .
ورجاء الناس فى أن تهمى هذه السحب طمع فى محله لا يستغرب، وخوفهم أن يكون البرق وليد سحاب جهام لا خير فيه خوف فى محله لا يستنكر . ولو خشوا أن يتحول التيار الكهربائى إلى صواعق مهلكة فخشيتهم طبيعية لا نكير عليها ..
أما تصور الكاتب أن الناس تخاف البرق لأن عفريتاً يصنعه فهذا تصور أطفال، والآية التى أوردها عن البرق والمطر واحدة من ثمانى آيات متتابعة تصف ما يسميه ظواهر طبيعية وصفاً جليلاً رائعاً يحييه العلماء من قلوبهم .
أما قصة الكسوف فلا ندرى مقدار العمى الذى كان صحب الكاتب وهو يذكرها، لقد وهل الناس أن الشمس كسفت لموت إبراهيم بن النبى عليه الصلاة والسلام، فقام النبى ينفى ذلك بشدة مؤكداً أن الكسوف والخسوف آيات إلهية، أو بالتعبير الحديث ظواهر طبيعية .
وزهد صاحب الرسالة فى المجد الذى أتاحته الظروف !! وكان فى وسعه أن يسكت تاركاً هذا الظن يستقر، ولكنه أبى، وأمر أتباعه بالصلاة تحية لرب الأرض والسماء، وانحناء أمام عظمة مسير الكواكب فى الفضاء .
أهذا مسلك يعاب ؟! شاهت الوجوه ..
ومعروف فى سيرة النبى الكريم أنه كان شديد الرقابة لله، شديد الخشية منه، وربما تعصف الريح فيقلق خشية أن تكون ريحاً مدمرة يعذب الله بها المتمردين عليه، فهل قالوا: إن هبوب الريح من علامات الساعة ؟
وهل خوف النبى من أن يكون الكسوف إيذاناً باقتراب الساعة يدل على شىء أكثر من شعوره الحى بقرب لقاء الله .
ولنترك ما حكاه “ أبو موسى الأشعرى “ فى ذلك ولنتدبر ماذا قال الرسول نفسه عن الكسوف والخسوف ؟ قال عنهما: آيتان من آيات الله .. وحسب ..
فأى اعتراض علمى على هذا ؟
ويقول الكاتب: “ يحدد لنا العلم أن الكسوف للشمس، والخسوف للقمر “، وليس كما جاء فى الحديث: “ خسفت الشمس “ .
الجواب: ليس هذا تحديداً علمياً، وإنما هى اصطلاحات تواضع عليها بعض الناس لا تؤثر فى طبيعة اللغة العربية التى تسمح باستعمال الكسوف والخسوف للشمس على سواء .
إن كلمة “ التبشير “ شاعت فيما يفرح، ولكنها لغة تستعمل فيما يسر، وفيما يسوء .
وكلمة “ أصاب “ أو “ مصيبة “ تستعمل فى الآلام والمتاعب، ولكنها لغة تستعمل كذلك فى الأفراح
“ ما أصابك من حسنة فمن الله “ (النساء: 79) و “ نصيب برحمتنا من نشاء “ (يوسف: 56) ولكن عبقرى أسيوط الذى لا يعرف من لغة العرب إلا نزراً يريد أن يتصيد أخطاء لغوية لرجال البلاغة العربية.
غلطة جغرافية !
وننقل هذه “ النكتة “ ليتفكه بها القراء:
روى البخارى بسنده أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكر مواقيت الحج: قرناً لأهل نجد، وذا الحليفة لأهل المدينة، والجحفة لأهل الشام، ويلملم لأهل اليمن “ وذكر العراق فقال: لم يكن يومئذ عراق .. “ .
وليس يعنينا: من سأل ولا من أجاب وبديهى أن معنى “ لم يكن يومئذ عراق “ أنه لم يكن حجيج وافدون من العراق ..
لكن أخصائى الشبه قال: “ ولكن الواقع العلمى يثبت ويؤكد أنه كان يومئذ عراق، ولكن القوم لم يكونوا قد ذهبوا إليه !! أو سمعوا عنه !! .. “ .
العرب فى الجزيرة والشام لم يكونوا يعرفون أن هناك قطراً مجاوراً لهم اسمه العراق .
لقد كان سكان العراق عرباً، وكانت علاقاتهم بسكان الجزيرة قائمة، وكان العرب إذا ذهبوا إلى فارس أو الهند مروا طبعاً بالعراق .
ولقد وصف النبى قصور “ الحيرة “ كبرى مدن العراق يومئذ للمسلمين، وهم محصورون وراء الخندق، وبشرهم بأنهم سيفتتحونها، فكيف يقول أبله: إن العرب كانوا يجهلون وجود العراق لأن “ علم الجغرافيا “ لم يكن تأسس بعد؟!!
الشهاب الراصد
ويتحدث الكاتب عن الشهب الساقطة فيكذب ما ورد فى القرآن من أنها رجوم للشياطين .
جاء فى سورة الجن: “ وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً، وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً “ (الجن: 8، 9) .. ونقول: أجمع علماء الكون على رحابته، واتساع آفاقه، والسؤال الذى نورده: هل أبناء آدم وحدهم هم العقلاء الذين يحيون فيه ؟! . أيبنى رجل قصراً من سبعين ألف طبقة ثم يسكن غرفة منه ويدع الباقى تصفر فيه الريح ؟ فلم بناه بهذه الضخامة ؟
الواقع أن هناك غيرنا يسكن هذا الكون، ومن هؤلاء “ الجن “ الذين تحدثت عنهم الأديان، فإذا حاول أحدهم التمرد، وإفساد الهداية النازلة لأهل الأرض فما المانع من إرسال شهاب وراءه يحرق كيانه ؟
ولم يقل القرآن الكريم إن “ كل “ شهاب يلمع فهو وراء شيطان سارق ! لم يرد هذا القصر فى القرآن قط، فقد تتساقط الشهب لأمور أخرى لا ندريها ولم يعرف العلم المعاصر عنها شيئاً .
ومن هنا فإن القول بأن القرآن “ أصبح يتناقض مع العلم فى قصة الشهب “ لغو لا أصل له .
خزان المياه
ويكذب الكاتب "النابغ" قوله تعالى “ وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين “ (الحجر: 22) فيقول:
أصبحنا بعد إقامة السد العالى من أكبر الخازنين لمياه الأمطار .
وبذلك تكون الآية كاذبة !!
فإن خزن المياه فى “ الأزيار “ أو فى “ الصهاريج “ أو وراء السدود لم يكن معروفاً فى الدنيا حتى بنى سد أسوان .!!!
أرأيت هذا العمى ؟؟
إن خزن مياه الأمطار على هذا النحو معروف للأولين والآخرين .
والآية تشير إلى معنى رائع فإن الزروع تحتاج إلى الماء لتنمو، والناس والدواب تحتاج إلى الماء لتحيا، وقد تكفل الله بإعداد المقادير من الماء الصالح لسد هذه الحاجات كلها، ورتب لذلك عمليات البخر وتكون السحب وسقوط الأمطار، وتفجر الينابيع أو جريان الأنهار ..
وستذوى أعواد النبات وتفنى أجساد البشر، ويعود ما فى هذه وتلك وغيرهما من ماء، ليأخذ دوره البخر والسحب والأمطار .. الخ وهكذا دواليك . [ أكدت هذا المعنى آية أخرى “ وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه فى الأرض، وإنا على ذهاب به لقادرون “ ] .
وتوفر العذوبة للماء، وحفظ القدر الذى تحتاج الدنيا له، هما معنى الاختزان الوارد فى الآية.
وما فهم ذكى ولا غبى أن الناس عاجزون عن خزن المياه لأنفسهم فى قلة أو زير أو مستودع
صغير أو كبير .. !!
فهم عجيب
وتصفحت الكراسة التى بين يدي، وهى مليئة بلغو ممل، لأتبين حدود الهجوم على القرآن الكريم، فوجدت الكاتب يتحدث عن ابنى آدم اللذين قتل أحدهما أخاه .
والقصة معروفة: أخ صالح تقرب إلى الله بقربان فقبله منه، وأخ شرير تقرب كذلك فرفض الله قربانه، فتوعد الشرير أخاه بالقتل، ولكن الأخ الطيب نصح أخاه الفاشل قائلاً: “ إنما يتقبل الله من المتقين “ أى اتق الله ليقبل منك عملك، كما قبل منى، ولم تجد النصيحة، وافترس الشرير أخاه .
وقد تناول عبقرى أسيوط هذه القصة، وذكر أنها واردة فى التوراة .
لماذا ؟ .. يقول: هذه القصة لو تمت على هذه الصورة لكان القاتل بريئاً ؛ إذ تعرض بسبب رفض قربانه لحالة نفسية قاسية نتيجة شعوره بعدالة ما كان يرنو إليه من قبول، ثم يقول: “ إن القصة تشير بأصابع الاتهام إلى المحرض على القتل، وهو الذى رفض قبول القربان “ .
ثم يقول المغفل عن الله: “ إنه لو كان قبل القربان ما تمت الجريمة “ .
حد السرقة
ووقعت عيناى على هذه العبارات فى أثناء هجوم الكاتب على “ حد السرقة “ يقول: “ أما عن تحريم الأديان للسرقة فقد كان الغرض منه ترضية الأغنياء وتأمينهم على مالهم وضمان تأييدهم، إذ المفروض بداهة ألا يسرق إلا الفقير “ !!
ويقول: “ التأميم هو اغتصاب شرعى لما سبق أن اغتصب ظلماً من الجماهير الكادحة فهو تصحيح للأوضاع وإزالة للظلم التاريخى المتأصل “ .
وقد يلومنى بعض القراء لاهتمامى بذكر هذه السخافات والرد عليها، ولو علموا ما تركته من آثار بين طلاب الجامعة فى أسيوط لعذرونى .
إن هؤلاء الطلاب لم يعرفوا عن الإسلام شيئاً، والخطة الموضوعة “ لتخريجهم “ باعدت بينهم وبين الثقافة الإسلامية الناضجة، والسليقة الأدبية العالية، حتى إذا تركوا الجامعة بعد نيل “ إجازاتها “ خدموا كل شىء إلا دينهم، وأصبحوا فريسة سهلة لمبشرين محتالين أو أفاكين من النوع الذى قرأت هنا شبهاته ضد القرآن الكريم ..
وما وقع فى “ أسيوط “ وقع قريب منه فى “ الإسكندرية “ ونتج عنه ارتداد بعض الفتية والفتيات .
إنهم مساكين غير محصنين بشىء ضد الإلحاد أو الشرك .
ولما كانت كتب السنة قد تضمنت أشياء تحتاج إلى بيان وتمحيص وكشف فلا بد من الوقوف قليلاً أمام ما أثاره هؤلاء الفتانون .
كذب على رسول الله (عليه الصلاة والسلام)
ونعود إلى ذكر الأحاديث التى هاجمها المستشرقون والمبشرون وسماسرتهم .
روى الكاتب الأسيوطى أن رسول الله قال: “ إذا غضب الله على قوم أمطرهم صيفاً “ [ لم أجده حتى فى كتب الموضوعات المشهورة !! ] ..
وبنى على هذا الحديث جهل قائله بالحقائق الجغرافية .. ونقول: ما رواه الكاتب كذب، والحديث باطل موضوع .
وروى عن النبى عليه الصلاة والسلام أنه حرم الثوم تحريماً قاطعاً مع ما فيه من فوائد غذائية وطبية .
ونقول: هذا كذب، فأكل الثوم والبصل والفجل جائز، وهذه المواد مباحة كلها، ولكن على آكلها ألا يؤذى المجتمع برائحة فمه، ويستطيع أن يبتعد عن غيره ويقوم بأى عمل انفرادى، وتسقط عنه صلاة الجماعة بل إن الأبخر تسقط عنه صلاة الجماعة، رحمة بالآخرين ..
وروى الكاتب حديث “ الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء “ [ الحديث رواه البخارى، والترمذى، وابن ماجه: كلهم فى: الطب، ورواه مسلم فى: السلام، والدارمى من: الرقائق، ومالك وأحمد . وهو صحيح كما بين شيخنا ]
وكذبه قائلاً: الحمى ليست من فيح جهنم، بل هى من فيح الأرض وما فيها من قاذورات تساعد على تولد الجراثيم ..
والكاتب كاذب والحديث صحيح، وما قاله ليس رداً، فإن الحمى مهما كان سببها ترفع درجة الحرارة، وتكاد تصدع الرأس بآلامها فإذا شبهها النبى بعذاب جهنم، وأوصى أن تخفض درجة الحرارة بالمبردات، فهو محق .
نماذج لتحريف الكلم
وذكر الكاتب الحديث القدسى “ إذا ابتليت عبدى بحبيبتيه فصبر عوضته عنهما الجنة “ [ رواه أحمد: 2 / 144 ط الحلبى، والبخارى فى كتاب الرضى، والدارمى فى الرقاق، والترمذى فى الزهد ]، يريد عينيه . ثم علق عليه بهذه الكلمات الحمقاء:
الرأى متروك لأطباء العيون ليقرروا هل فقد البصر ابتلاء من الله أم هو ناتج عن أمراض معينة ؟
ثم قال بعد لغو طويل: “ إذن المسألة ليست الصبر أو التعويض عن فقد العينين بالجنة !! المسألة كلها نقص فى المستوى العلمى آنذاك !! “ .
والمرء يتحير فى هذا الغباء ! هل يقال لمن أصيب بانفصال فى الشبكية مثلاً: انتحر فقد فقدت نور الحياة، أم يقال له اصبر واحتسب ؟!
وهل الوصية بالصبر تعنى عدم التماس العلاج إن وجد إليه سبيل ؟
لقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتداوى والتماس العافية من أى سبيل ميسور .
لكن ما العمل إذا لم ينفع الدواء ؟ أيقول الأنبياء للمرضى: موتوا بغيظكم . أم: اصبروا على قضاء ربكم، يأجركم يوم اللقاء بما يطيب خاطركم .
وذكر الكاتب حديث رسول الله فى الطاعون ثم أخذ يتخبط فى التعليق عليه، وتعليمات النبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك تحصر الوباء فى أضيق نطاق ممكن لأنه يقول: إذا سمعتم بالطاعون فى بلد فلا تسافروا إليها ولا تخرجوا منها ..
ولا شك أن الباقى فى بلد تحدثه نفسه بالفرار نجاة بحياته، بيد أن النبى الكريم يوصيه بالبقاء ـ منعاً للعدوى ـ كما أسلفنا، ويجعل لمن مات مصاباً أجر شهيد، وهى مواساة كريمة، ووعد مصدوق ..
وبديهى أن يكون هذا الأجر الأخروى لمن يؤمن بالآخرة وحده، إذ ماذا ينتظر من الله منكر لوجوده، أو مفتر الكذب عليه ؟!
لكن هذا الأسيوطى المسكين يسوق حديث البخارى فى هذا الموضوع على هذا النحو:
روت عائشة قالت: “ سألت رسول الله عن الطاعون، فأخبرنى أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس من أحد يقع الطاعون فى بلده فيمكث صابراً محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله إلا كان له أجر شهيد “ (رواه البخارى وأحمد) .
ثم يتساءل: “ والآن لا نقول ما رأى الطب فى هذا القول ؟ بل ما رأى المثقف العادى ؟ “ وبعد ثرثرة فارغة يقول: “ أرجو كبار الأطباء أن ينظروا فى مراجعهم حتى يشرحوا نوع الشهادة التى رأى محمد أن يخص بها المسلمين فقط .. “ .
وما نجد شيئاً نعقب به على هذا الغباء ..
ومعروف من تعاليم الإسلام أنه شديد الاهتمام بنظافة البدن، وتنقيته من كل درن، وما دام الإنسان يأكل الطعام فهو محتاج إلى إرشادات مهمة لاستقباله، والخلاص من فضلاته .
ولم يؤثر عن أحد أنه أمر بتطهير الفم كما أثر ذلك عن محمد عليه الصلاة والسلام .
ولم يؤثر عن أحد أنه أمر بالتطهر التام من آثار الفضلات الأدبية كما أثر ذلك عن الإنسان الطهور الوضىء محمد بن عبد الله فقد أوصى باستخدام الماء، بعد أن أوصى بإزالة القذى دون ملامسة اليد له، ولا بأس فى بيئة صحراوية من الاستعانة ببعض الحصى فى ذلك تنزيهاً لليد من مباشرة النجس !! ومع ذلك كله فقد أمر بدلك اليد بالتراب، أو بأى مزيل للروائح الكريهة ! ماذا يفعل أكثر من ذلك لتكريم الجسد الإنسانى ؟
وفى الجنابة إذا كانت هناك آثار للسائل المنوى تغسل، وينقى منها البدن والثوب، مع أن السائل المنوى طاهر عند فريق من الفقهاء .
غير أن عبقرى أسيوط دخل فى هذه القضية بفكر متعصب قذر، فذكر عن ميمونة ـ زوج النبى ـ أنه اغتسل من الجنابة فغسل فرجه بيده ثم دلك بها الحائط، ثم غسلها، ثم توضأ وضوءه للصلاة، فلما فرغ من غسله غسل رجليه “ (رواه البخارى، ومسلم، والإسماعيلى فى مستخرجه وابن حبان، راجع تلخيص الحبير: 1 / 142).
قال الكاتب: “ فى هذا الحديث نقف عند جملة معينة هى: “ فغسل فرجه بيده ثم دلك بها الحائط “ أى مسح يده بالحائط، أليس هذا التصرف ناقلاً للعدوى لو أنا تابعناه .. إن الطب يؤكد أن أمراضاً كثيرة مثل الديدان المعوية والبلهارسيا تنتقل بهذا التصرف من المريض إلى السليم .. “
وهذا كذب فى كذب ! من قال: إن أى زوج ينقى جسمه من آثار المباشرة الجنسية ينقل البلهارسيا وديدان الأمعاء ؟!
والكاتب الذى يمد عينيه إلى هذه الشئون كيف ينسى ما عنده من تعاليم تجعل ما يخرج من
جسمه ـ أياً كان ـ ليس نجساً .. أى الفريقين أطهر وأشرف ؟ هل نذكر له ما ورد فى الأناجيل من ذلك ؟
[ يراجع كتابنا دفاع عن العقيدة والشريعة ] .
إن التوجيهات المحمدية فى ذلك بلغت القمة، أما ما ينقل عن غيره فيثير الغثيان .
وإذا لم يكن الكاتب نصرانياً وكان شيوعياً فهل يدلنا كيف كان ماركس يتطهر ؟ إن إبقاء الغطاء على هذا الموضوع أحفظ للمروءة وأصون للذوق العام !
ويتهكم الكاتب بالطهارة الرمزية المعروفة فى الإسلام باسم التيمم . ونحن نقول له: إذا كنت تضيق أن يمس التراب بعض أعضاء الإنسان فما رأيك إذا كان الكتاب المقدس يأمر بابتلاع هذا التراب نفسه ؟ (سنسوق النص بعد قليل عند الحديث عن الاعتراف) .
وينكر الكاتب وجود السماء قائلاً: إن الفكر البشرى أيام جهالته أخطأ فى فهم الزرقة التى تحيط بنا، فوصفها بأنها سقف الأرض وسماها سماء، ثم جاءت الأديان فأكدت ذلك، وزادت بأن حددت عدد طبقاتها، وظل هذا الاعتقاد سائداً حتى أبطله العلم .
ونقول: تطلق السماء لغة على كل ما علا . وقد أطلق القرآن الكريم السماء على السحاب . قال تعالى: “ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها “ (فاطر: 27) وفى آية أخرى: “ ألم تر أن الله يزجى سحاباً ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاماً فترى الودق يخرج من خلاله .. “ (النور: 42) ـ أى المطر .
ومن الآيتين معاً نعلم أن السماء هى السحاب .
وأطلق القرآن السماء على السقف العادى، وكل ما ارتفع: “ من كان يظن أن لن ينصره الله فى الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع .. “ (الحج: 15) .
وتطلق السماوات السبع على طباق فوقنا لا نعرف: ما هى، ولا ما أبعادها، ولم يتحدث الدين عن مادتها، ولا عن طريقة بنائها، فماذا فى العلم يخالف ما أسلفنا بيانه ؟
يقول هذا الكاتب: وراء النجوم فراغ لا نهائى، لا محدود ..
ونقول هذا كذب، فالكون محدود، والوصف بالمطلق هو لله وحده، ولم يقل علماء الفلك أنهم استيقنوا من أن كوننا هذا لا نهائى ..
ثم يجىء الكاتب إلى قوله تعالى: “ أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما “ فيزعم أن هذا الرأى يناقض جميع النظريات العلمية، كما يعرف ذلك طلاب المدارس ..
لقد فهم الأحمق من الآية أن الأرض كانت ملزوقة فى الزرقة الفضائية قبل أن تنفصل وحدها .. وهذا ما لم يقله أحد .
سئل ابن عباس عن هذه الآية فقال: فتق السماء بالمطر، وفتق الأرض بالنبات ..
وهناك رأى علمى بأن المجموعة الشمسية كانت سديماً، ثم انفصلت عن الشمس وتوابعها على نحو ما نرى .
ونحن لا نصدق ولا نكذب رأياً علمياً لم يستقر فى وضعه الأخير .. والمهم أن القرآن يستحيل أن يكون به ما يناقض حقيقة علمية مقررة .
المداد القرآنى
ومن سخافات المسكين أن يقول إن القرآن كله تتم كتابته بقطرات من محبرة، فكيف يجىء به “ قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربى لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى .. “ (الكهف: 109)
إن كلمات الله تكثر كثرة ما يعلم، وقد وسع كل شىء علماً، إنها الكلمات المتصلة بتدبير الوجود كله، والقيام على أمره، إنها تتصل بحياة كل ذرة فى الأرض والسماء .
وليست بداهة ألفاظ القرآن، ولكن الجنون فنون ..
ولا أريد أن أطيل السرد، والأخذ والرد مع شخص يهزل ويرى أنه يجد !!
حديث الذباب
أريد أن أقرر حقيقة إسلامية ربما جهلها البعض: هل رفض حديث آحاد لملحظ ما يعد صدعاً فى بناء الإسلام؟
كلا فإن سنن الآحاد عندنا تفيد الظن العلمى، إنها قرينة تستفاد منها الأحكام الفرعية فى ديننا، فإذا وجد الفقيه أو المحدث أن هناك قرينة أرجح منها، تركها إلى الدليل الأقوى دون غضاضة .
وتعريف الحديث الصحيح: “ ألا تكون فيه علة قادحة “، فإذا بدت علة فى “ سنده “ أو “ متنه “ تلاشت صحته، ولا حرج .
وأئمة الفقه الإسلامى بنوا اجتهادهم على هذا النظر الصائب .
ـ فأبو حنيفة مثلاً رفض أن يترك المسلم إذا قتل كافراً دون قصاص وتجاوز حديث البخارى فى ذلك “ لا يقتل مسلم فى كافر “ واعتمد فى مذهبه على آية “ النفس بالنفس “ .
ـ ومالك كره أن تنفل المصلى قبل فريضة المغرب، ولم يلتفت لما رواه البخارى فى ذلك من استحباب صلاة ركعتين لمن شاء، ورأيه هذا يرجع إلى أن عمل أهل المدينة أدل على السنة من حديث آحاد، وهم لا يتنفلون قبل المغرب، فاتباعهم أولى من رواية البخارى .
ـ وأبو حنيفة ومالك جميعاً يكرهون أن يصلى المرء تحية المسجد والإمام يخطب يوم الجمعة، ويردون ما رواه البخارى فى ذلك بردود شتى .
ـ وأغلب الأئمة يرفض ما روى .. فى الصحيح من أن رضاعة الكبار تثبت حرمة المصاهرة، ويرون أن الرضاعة المثبتة المحرمة ما كان فى فترة الطفولة، أى ما أنبت اللحم وشد العظم .
ولا نريد أن ننتقل إلى مباحث فقهية مفصلة، وإنما نريد أن نقول: هب أن رجلاً قال: لا أستطيع قبول رواية “ إذا وقع الذباب فى شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه، فإن فى إحدى جناحيه داء والأخرى شفاء “ أيكون من الكافرين ؟ كلا !! فلم يقل أحد أن أركان الإسلام تضم الإيمان بالله واليوم الآخر وغمس الذباب فى الشراب إذا سقط فيه !
وحيث الآحاد ليس مصدر عقيدة شرعية أو حكم قاطع، بيد أنى من باب استكمال البحث العلمى فقط
أسأل: هل الحديث مردود ؟ إن بعض علماء الحشرات قرر أن هذه الحشرة تفرز الشىء والشىء المضاد له، فإن استقر هذا الرأى الفنى فالحديث صحيح، وإن ثبت قطعاً أن الذباب مؤذ فى جميع الأحوال التى تعرض له ومن بينها الحالة المروية فى الحديث رددته دون غضاضة .
وليس بقادح هذا فى دينى ولا يقينى .
وقد روى “ البخارى “ أحاديث صحيحة السند لكن أئمة الفقه عملوا بغيرها لأدلة أقوى عندهم منها .. وأنا شخصياً متوقف فى هذا الحديث، لم أنته فيه إلى حكم حاسم، وعلى أية حال فهو لا يتعلق بسلوك خاص أو عام ..
إن قواعد الدين وعباداته وفضائله وقيمه ترتكز أولاً على القرآن الكريم ثم ما يشرحه من سنن استراح النقاد الأخصائيون لها ..
ومنهج المحدثين فى تلقى التراث النبوى لا غبار عليه، بل إن هذا المنهج هو ما تحتاج إليه الديانات الأخرى لتكون موضع ثقة وقبول .
وما دام هناك من يضرب رأسه بالجبل ليثبت أن فى الإسلام متناقضات فلنلق نحن نظرة خاطفة على تراث القوم ليرى القراء أين تقع التناقضات الحقيقية:
أساطير العهد القديم
إننا فى الفصل الأول من هذا الكتاب فضحنا الأسلوب الطفولى الماجن الذى تحدث به العهد القديم عن الألوهية، فلنسمع هذه الأخبار عن عدد بنى إسرائيل حين دخلوا مصر وحين خرجوا منها، يقول الأستاذ عصام الدين حفنى ناصف كاشفاً عن التزوير الذى اقترفه كتاب التوراة:
“ من ذلك ما زعموه أن يعقوب وأسرته وفدوا على مصر بدعوة من يوسف، وكانت عدتهم 70 شخصاً فما انصرمت 215 عاماً حتى كان عددهم قد ناهز 3000000 (أى 3 مليون) فلما نزحوا عن ديارنا كان بينهم “ نحو ستمائة ألف ماش من الرجال عدا الأولاد “ ـ هكذا سجل سفر الخروج ـ (12: 37) وقد أحصوا أبكارهم فكان جميع الأبكار الذكور بعدد الأسماء من ابن شهر فصاعداً، المعدودين منهم اثنين وعشرين ألفاً ومائتين وثلاثة وسبعين (عدد 3: 43) .
فإذا ضاعفنا هذا الرقم كان جميع الأبكار من الجنسين نحو 45000، وبقسمة عدد الجماعة على عدد الأبكار نخلص إلى أن المرأة الإسرائيلية كانت تلد زهاء 65 وليداً !! “ .
هذه هى مقررات الكتاب المقدس .. دون تعليق !
وظاهر أن اليهود كذبوا فى ذكر عددهم كذباً صارخاً، وأنهم أودعوا كذبهم هذا فى تضاعيف التوراة، وعلينا أن نصدق !!!
يقول “ عصام ناصف “: “ إن هذه الملايين الثلاثة المزعومة من اليهود الآبقين من مصر لو أنها سارت فى صفوف عرضية متراصة يضم كل صف منها عشرين يهودياً، ويشغل الصف بين سابقه ولاحقه متراً واحداً لاستطال هذا القطار البشرى “ الطابور “ مسافة 150 كيلو متراً ـ أبعد من المسافة بين القاهرة وخليج السويس ـ ولتعذر على قائدهم موسى أن يبلغهم أوامره “ !
وعن كهنة الأديان السابقة وإغراقهم فى المتاع المادى يقول: “ إن المال والجاه وإن كانا فى حقيقة أمرهما غرضاً يبتغى لذاته، هما كذلك وقبل ذلك وسيلة لفرض لا تكتمل المتعة إلا به، وهو قضاء الوطر من الناحية الجنسية، ومن ثم خولوا أنفسهم حق الاستماع إلى اعترافات النساء، فيما يتصل بأوثق علاقاتهن بالرجال ..
“ وقد اشترعوا لهذا الغرض ما أسموه “ شريعة الغيرة “ . فإذا استراب رجل بامرأته، وهجس فى صدره أنها خانته مع آخر “ يأتى الرجل بامرأته إلى الكاهن ويأتى بقربانها معها، فيقعدها الكاهن ويوقفها أمام الرب، ويأخذ الكاهن ماء مقدساً فى إناء خزف ويأخذ الكاهن من الغبار الذى فى أرض المسكن ويجعله فى الماء “ (عدد 15 ـ 17)
ويخلو الكاهن بالمرأة ويشرع فى تلاوة بعض الألفاظ ويستحلف المرأة أن تقر بما كان منها ثم يجرعها الماء المشوب بالغبار .
ومتى سقاها الماء فإن كانت قد تنجست وخانت رجلها يدخل فيها ماء اللعنة للمرارة فيرم ـ يتورم ـ بطنها وتسقط فخذها (!) فتصير المرأة لعنة فى وسط شعبها . وإن لم تكن المرأة قد تنجست بل كانت طاهرة تتبرأ وتحبل لزرع “ (عدد: 15 ـ 17) [ نقدم هذا النص لمن لم يرقهم “ التيمم “ بالغبار، ها هو ذا الغبار يشرب عندهم ]
ومن المعلوم أن الماء لا يدخل المرارة، وأن وظائف الأعضاء لا تمت إلى المسلك الخلقى بسبب وثيق، ولكنها إجراءات خادعة تتخذ بتعزيز سلطان الكاهن على المرأة، فهو ينفرد بها فى خلوة ثم يخرج راضياً أو ساخطاً وينطق بالقول الفصل فيدينها بالموت مجللة بالعار، أو يدعها تنعم بالحياة مرفوعة الرأس ناصعة الجبين “ .
هذه توجيهات الكتاب المقدس، ومبدأ الاعتراف على هذا النحو أو على أى نحو آخر لا معنى له ولا أثر، اللهم إلا إفساد الدين والخلق ..
ماذا على من أخطأ أن يتصل بربه لفوره فى دعاء النادم، ورجاء الخاشع، والله يبسط يده بالنهار ليتوب مسىء الليل ويبسط يده بالليل ليتوب مسىء النهار، وبابه يستقبل كل شخص رجلاً كان أو امرأة، شيخاً أو شاباً، عالماً أو جاهلاً ؟؟
هذه توجيهات الإسلام، وهى نابعة من مبدئه العتيد: “ كل امرئ بما كسب رهين “ أما انفراد المرأة
بكاهن ـ أو غير كاهن ـ فى خلوة فأمر لا تحمد عقباه، خصوصاً إذا كانت هذه الخلوة مع محروم من الزواج معلوف بأطايب الطعام !!
هل الله جل شأنه مصدر هذه التعليمات ؟ كلا ..
إن من المقطوع به أن عدداً من المؤلفين لا مؤلفاً واحداً أشرف على وضع الكتاب المقدس كله، ولا نزعم أنه خال من الوحى الإلهى من أوله إلى آخره، لا، بل نقرر أن خليطاً معقداً من أهواء الناس وهدايات الله .. تم التنسيق بينهما على النحو الذى نرى .
بيد أن من المضحك أن الذى قام بتأليف التوراة نسى نفسه وهو يكتب، وذهل كل الذهول أنه سوف ينسب ما يكتب إلى موسى !!
فأورد فى تضاعيف التوراة ـ النازلة على موسى فرضاً ـ هذه العبارات: “ فمات هناك موسى عبد الرب فى أرض موآب حسب قول الرب، ودفنه فى الجواء فى أرض موآب مقابل بيت فغور، ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم . وكان موسى ابن مائة وعشرين سنة حين مات . ولم تكل عينه ولا ذهبت نضارته، فبكى بنو إسرائيل فى عربات موآب ثلاثين يوماً، فكملت أيام بكاء مناحة موسى .. “ .
ما هذا ؟ موسى الذى أنزلت التوراة تتحدث عنه التوراة بهذا النعى والعزاء والمناحة ؟؟
ما يستطيع عاقل إلا الإقرار بأن كاتب التوراة بعد موسى نسى نفسه ونسى الدور التمثيلى الذى يقوم به، وغلبت عليه صفة المؤرخ لا المؤلف فقال ما قال ليعرف المستغفلون ماذا يقرأون !!
ونقرن هذا النص بخبر آخر نشرته جريدة الأهرام فى 3 مايو سنة 1973 (19 من ربيع الأول سنة 1392) تحت عنوان “ وثائق دينية تاريخية تسلمها هولندا إلى الأردن “:
“ عمان: ـ سلم اليوم الدكتور “ هانك بانكير “ بالنيابة عن الحكومة الهولندية إلى الدكتور غالب بركات وزير السياحة الأردنى وثائق تاريخية تتضمن النصوص القديمة التى قال المؤرخون أنها تطلبت إعادة تقييم الإنجيل . وكانت بعثة أثرية هولندية قد اكتشفت هذه الوثائق فى عام 1967، وهى وثائق كتبت بالآرامية فى القرن السابع قبل الميلاد، وعثرت عليها البعثة فى وادى الأردن، وكانت البعثة قد حملت تلك الوثائق إلى هولندا لدراستها وحل رموزها بقصد حفظها . وقال الدكتور “ هـ . فراكين “ الذى رأس تلك البعثة: إن هذه الوثائق فريدة من نوعها، وقال: إن كل المعلومات التى وردت فى الإنجيل حول فلسطين والأردن فى نهاية العصر البرونزى وبداية العصر الحديث غير موثوق بها لأنها كانت محاولة قام بها قساوسة من القدس لجعل التاريخ يتناسب مع الآراء الدينية للقرن السابع للميلاد “ .
هذا الخبر الصغير نقطة فى بحر من الأوهام والترهات التى تغص بها هذه الصحائف .
وما نعلم كتاباً حفته العناية العظمى، وصانته أجل صيانة من هذا القرآن الكريم .
إن القارات الخمس ليس فيها ما يوصف بأنه وحى السماء إلا هذا الكتاب الفذ .
فهل يؤدى المسلمون حقه ؟!
تحقير التدين ومطاردة المتدينين لأدنى ملابسة خطوة إلى الارتداد الذى لا ريب فيه، وهو فى الظروف التى تواجهها أمتنا نوع من الخيانة العظمى أو هو الخيانة العظمى نفسها .
وقد أفهم أن تشتبك السلطات الحاكمة مع أفراد أو جماعات ينازعونها السيادة لغرض سىء أو حسن ! لكن هل يقال: إن التاريخ الإسلامى يعين على تكوين جماعة الإخوان، فليمسخ هذا التاريخ ! .. أو: إن البيئات المتدينة مستودع يستمد منه الإخوان، فلتحارب هذه البيئات ؟؟
إن هذا القول يعنى بداهة نقل الخصومة من ميدان إلى ميدان آخر، وأن الإسلام ذاته قد أصبح عرضة للعدوان.
وقد هززت رأسى أسفاً وأنا أسمع شاباً يتبرأ من الانتساب إلى الإخوان فيقول لقضاته: أنا عمرى ما ركعتها، ويعلم صحبى أنى أشرب الخمر، وأفعل كذا وكذا !!
وقد استمع الناس إلى أحد “ نجوم الفكاهة “ فى مصر يذكر أن امرأة اقتيد زوجها إلى السجن فسئلت: أهو من الإخوان ؟ فقالت: “ فشر ! زوجى حرامى قد الدنيا “ .
وهكذا أصبحت اللصوصية شرفاً ! أو نسبة لا حرج فيها على الأقل !
والواقع أنه مرت ببلدنا أيام كالحة الوجه، مشئومة العقبى كان التدين فيها تهمة تخرب البيوت، وكان عدد من الشبان المؤمنين يختفى بصلاته وتقواه، وقل تردده على المساجد لأنه أشيع أن نفراً من الذين صلوا الفجر فى مسجد كذا قد اعتقلوا ..
وامتداداً لهذه السياسة ـ سياسة سوء الظن بكل ذى نزعة متدينة ـ وضعت المؤسسات الإسلامية الكبرى تحت رياسة عسكرية لها الكلمة العليا مثل “ الجمعية الشرعية “، و “ الشبان المسلمين “، و “ المجلس الأعلى للشئون الإسلامية “ و “ مدينة البعوث الإسلامية “ ..
وذلك لضمان حصر عاطفة التدين داخل إطار معين:
ـ فلا يسمع أى كلام عن تطبيق الشريعة الإسلامية .
ـ ولا يقبل أى اتجاه للعودة بالأمة إلى الاصطباغ بدينها فى ظاهر أمرها وباطنه .
ومن الإنصاف أن نذكر أن من بين هؤلاء العسكريين من ترك الشعور الإسلامى ينمو دون حرج، خصوصاً بعد أن تغيرت الظروف التى أملت بالتقرير المثبت فى هذا الكتاب [ راجع تقرير اللجنة التى شكلت من: زكريا محيى الدين، صلاح نصر، وشمس بدران لدراسة الظاهرة الإخوانية ] .
على أن الشيوعيين والصليبيين قد انتهزوا فرصة هذه المطاردة المثيرة فأعلنوا حرباً على الشارات الإسلامية فى المجتمع ونجحوا فى تحقيرها وتأليب قوى شتى ضدها .
وعن طريق المسرح وحده أمكن عرض روايات هازلة وجادة غرضها انتزاع كل مهابة لشيوخ الإسلام والمتحدثين باسمه .
كما أن سماسرة الغزو الثقافى فى بلادنا استماتوا فى صرف الشباب عن الدين، وأغروه بفنون الشهوات لينسى ربه ودينه ونبيه .
فلما تغلبت الفطرة الأصيلة وأخذ الشباب يعود إلى دينه فى صمت وظهرت الملابس الحشمة بين الطالبات الجامعيات جن جنون السماسرة من صحافيين وصحافيات وانطلقوا يفترون الكذب على العفيفات المحصنات، ووصفت امرأة ماجنة ملابس الفضيلة بأنها “ أكفان موتى ! “ وأخذت مع غيرها ينهشن بضراوة أعراض الطيبات الطاهرات .
وقد تصفحت المجلة التى نشرت هذا اللغو فوجدت بها دعوة إلى الزنا والرضا به، والتحريض عليه، فى عدة مواضع .. !!
ولا عجب فرئيسة تحرير المجلة هى التى ناقشت العقيد “ القذافى “ بسماجة نادرة، وسوغت أمامه انتشار الخنا فى شارع الهرم عندما نصر الرجل النساء بالتزام أحكام الإسلام .
“ الخيانة الزوجية “ تعبير مخفف عن جريمة الزنا عندما يرتكبها رجل مغافلاً امرأته أو ترتكبها امرأة مخادعة زوجها .
وأظن هذا التعبير مترجماً عن اللغات الأوربية حيث يعتبر اقتراف ذلك الإثم تفريطاً فى حق إنسانى عادى، أما نحن المسلمين، بل معشر المتدينين إجمالاً، فنرى الزنا تفريطاً فى حق الله قبل أن يكون تفريطاً فى حق عباده، وهو من الشخص المحصن أغلظ وأشنع ممن لم يسبق له زواج .
لكن الأستاذة المعلمة “ أمينة السعيد “ لها وجهة نظر أخرى فى هذه القضية: لماذا ينظر إلى الزنا هذه النظرة السيئة ؟ بل لماذا تستبشع الخيانة الزوجية على هذا النحو الشائع بين الناس ؟ فنشرت فى صفحة 47 من مجلة حواء (العدد 843 ـ 18 / 11 / 1972 م) هذا الكلام تحت عنوان “ أراحت نفسها “:
“ سألوها (وهى زوجة فرنسية): هل تغارين ؟ أجابت: أعانى من الشعور بالوحدة عندما يبتعد عنى زوجى، لكن لا أغار، وأعتقد أن الغيرة شىء لا معنى له، ولذلك ينبغى ألا نستسلم له !!
لكن سائلها لم تقنعه هذه الإجابة، فقال لها: اشرحى لى !
قالت: إننى أقول لنفسى افرضى أنه الآن مع واحدة أخرى، هل من حقى أن أعترض ؟ إننى لم أتزوج قرداً أو نكرة وإنما تزوجت رجلاً “ ملء ثوبه “، أحببته لهذا، ولا بد أن يعجب غيرى من النساء ! إننى لا أحمل له عاطفة الحب وحدها ولكن أيضاً الاحترام والتقدير !
قاطعها السائل: لا أهمية عندك إذن للإخلاص والوفاء ؟
قالت وهى تأخذ رشفة من فنجان القهوة: “ اسمع ! أنا الآن أشرب هذه القهوة .. شعرت بحاجة إليها .. وها أنذا أستمتع بها .. هل يمانع أحد ؟ .. هل من حق زوجى إذا دخل الآن أن يلومنى قائلاً: لماذا شربت القهوة دون إذن منى ؟ أقصد أن الخيانة العابرة ليست أكثر من فنجان قهوة بالنسبة لى .. لماذا أجعل لها من الأهمية أكثر مما تستحق ؟ أليس من الجائز أن يستمتع هو فى غيابى أيضاً بقطعة موسيقى .. باستلقاءة فى الشمس .. بنكتة يسمعها من أحد زملائه ؟ هل يوجد فرق كبير حقاً بين الاثنين ؟ أقصد أن النزوات .. الغلطات العابرة ينبغى أن نتسامح فيها، فإذا تغير شعوره نحوى تماماً ونفض يده منى فهذا شىء آخر .. شىء يستحق حزنى، لكن حتى فى هذه الحالة لن تفيدنى الغيرة شيئاً ! “ .
والآن (ما زال الكلام للمجلة) هل أثارت دهشتك ردود هذه السيدة ؟! إنها زوجة فرنسية .. ولا أعتقد أن كل الزوجات الفرنسيات يعتنقن هذا الرأى الجرىء والذى عبرت عنه فى حديث أجرته صحيفة “ مارى كلير “ مع بعض الزوجات .. لكن الذى لا شك فيه أن فى كلامها حكمة تفتح نافذة على نوع من راحة البال يحتاج إليه كثير من المتزوجين “ .
وفى الصفحة رقم (5) من هذا العدد علاج مماثل لقضية الزنا أو الخيانة الزوجية كما شاع على الألسنة، وهذه الكلمة المكتوبة تعليق على رواية للصحافى المشهور “ توفيق الحكيم “ .. فإن هذا “ التوفيق حكيم “ منح الرجل حق الزنا أو حق خيانة زوجته، وضن على المرأة بهذا الحق !! فجاءت مجلة “ حواء “ لترفع راية المساواة بين الجنسين، ولتطلب من الفنان الخليع أن يعيد النظر فيما كتب لأنه يعالج موضوعاً “ يتعرض للكثير من التغير بين جيل وجيل “ .
يقول المعلق الخسيس: “ فأنا لا أقصد أن كل ما جاء فى الرواية فى حاجة لمراجعة، ولكن يكفى أن بعضها محتاج إلى ذلك، لكى يحمل رجل الاجتماع الذى يسكن فى أعماق الفنان أن يقول كلمة التطور والتغير اللذين أصابا المجتمع وبدلا من أوضاعه وأفكاره “ .
ما الرأى فيما قالته الزوجة فى تساؤلها: وإذا خان الزوج، أليس لها الحق أن تخونه ؟ .. وكان جواب “ راهب الفكر “: لا، وكان تبريره لذلك أن الرجل هو الذى يعرق والمرأة هى التى تنفق، ثم يمضى قائلاً: اكدحى كما يكدح زوجك، اعرقى كما يعرق فإذا تساويتما فى التضحيات تساويتما فى الحقوق، فالرجل إذا خان خان من ماله، لكن الزوجة تخون من مال زوجها، لن تكون هناك مساواة مطلقة بينكن وبين الرجال فى هذا الإثم إلا إذا تطور الزمن تطوراً آخر فرأينا الزوجة تناضل فى الحياة وتكتسب بالقدر الذى يربحه الزوج ! .. أليس هذا المنطق بحاجة لمراجعة بعد أن تطور الزمن إلى ما نراه الآن ؟ .. إن ريح التغير قد أصابت بعض ما جاء فى هذه من أفكار، لكنها مع ذلك تظل قطعة فنية تحمل طابع زمنها وتتضوع بالأريج الذى يفوح دائماً من قلم فناننا الكبير المبدع “ .
هكذا تعالج مجلة حواء جريمة الزنا، وتطلب إعادة النظر فى جعلها حكراً على الزوج وحده كما يرى راهب الفكر، هذه هى رهبانية الفكر فى عالم الدواب .
هل يستغرب من مجلة حواء ـ التى تتمرغ فى هذا الحضيض ـ أن تنشر مقالاً للسيدة محررتها تحمل فيه حملة شعواء على ملابس الفضيلة التى تستر بدن المرأة كله عدا الوجه والكفين ؟
إن “ المعلمة “ التى تقود نشاطاً نسوياً فى بلادنا تشبه هذه الملابس الشرعية السابغة بـ “ الكفن ! “ .
وقد لعب التصوير دوره فى هذه المأساة، ففى الصفحة الخامسة من العدد صورة امرأة مضطجعة على وسادتها تحلم بالحب .. إن هذا أمر سائغ لا يعاب، وفى الصفحة الحادية عشرة صورة طالبة جميلة الملابس مشوهة الوجه، بادية الحشمة، كئيبة الطلعة !!
لم هذا التحامل ؟ .. ولحساب من ؟ .. الجواب معروف !
وتبلغ الوقاحة قرارها السحيق عندما تصف رئيسة التحرير نفسها ـ وقد نقلنا نماذج من أخلاق مجلتها ـ فتقول إنها “ من الوقورات المحتشمات المؤمنات بدينهن المتقيات لله الفاعلات للخير .. الخ “ .
وهذا أسلوب جديد فى الحرب المعلنة على الإسلام، يقول لك مستبيح الخمر والزنا والانحلال والاعوجاج: هل أنت بدعوتك إلى الصلاة والاستقامة مسلم ؟ .. لا، نحن أولى بالإسلام منك، إنك لا تعرف الإسلام، الإسلام تطور ومدنية، وليس المظاهر التى تتمسكون بها، نحن الصالحات الراقيات !
ونذكر قول الشاعر:
فياله من عمل صالح
يرفعه الله إلى أسفل !!
سماسرة الفاتيكان
فى أثناء هذا الهجوم المطالب بدمنا وديننا نباغت بموقف شاذ خائن للكنائس الغربية، تعلن فيه صلحاً جذرياً مع اليهود، يقوم على تبرئتهم من صلب المسيح، برغم ما تقرره الأناجيل التى بأيدى القوم ..
ونحن نعلم أن المسيح لم يصلبه يهودى ولا وثنى، ولكن إذا كانت الكنيسة تشهد بغير ذلك، وتنسب إلى اليهود ـ حسب روايات أناجيلها ـ أنهم متهمون خبثاء، وقتلة لؤماء، فما سر هذا الصلح المباغت ؟
إنه اتفاق علينا وشد لأزر القتلة وهم يخربون ديارنا، ويمحون تاريخنا، وما نستطيع تجاهل هذا الاتفاق، ولا الإغضاء عن آثاره ونتائجه فى أكثر من ميدان، إنه جهد من سلسلة جهود متصلة لإساءة الإسلام وإهانة أمته .
يقول الأستاذ “ علال الفاسى “: وقف البابا دائماً من الاستعمار موقف المؤيد، وقد كانت بعض حكومات المغرب قد أملت خيراً فى بعض الباباوات عساهم يؤثرون على الدول الخاضعة لنفوذهم الروحى فيخففون من حملاتهم العدائية، وهيهات .
قال: وأنا أحكى قصتين وقعتا لى ونحن فى أشد المواقف، أيام جهادنا لتحرير البلاد من الاستعمار الفرنسى ..
ـ الأولى: توجهنا باسم حزب الاستقلال أنا وصديقى المجاهد “ عبد الرحمن انجامى “ إلى أمريكا الجنوبية لنتصل بشعوبها وحكوماتها شارحين قضيتنا راجين أن تصوت هذه الدول لمصلحتنا فى المحافل الدولية، فكان يتبعنا حيث اتجهنا ـ تارة يسبقنا وتارة يلحقنا ـ الوزير الفرنسى “ بول رينو “ مبعوثاً من قبل حكومته، كما كان يتبعنا قسيس لبنانى مبعوثاً من طرف الكنيسة !
وعلمنا أن إرساله تم بطلب من فرنسا وموافقة من البابا، وقد قاما بجهود كبيرة ضدنا، ومع ذلك فقد انتصرت دعوتنا والحمد لله، وحصلنا على تأييد إخواننا العرب، وصوتت معنا كل الدول التى زرناها كالبرازيل والأرجنتين والشيلى .. وغيرها .
ـ الثانية: دخلت سنة 1952 مستشفى “ الأميرة فريال “ لإجراء جراحة بالكلية اليسرى، وكنت أشكو من وجود أحجار بها، وبلغنى وأنا فى انتظار العملية نبأ اعتقال الفرنسيين للشيخ “ عبد الواحد بن عبد الله “ من علماء “ الرباط “ وكان يدعو فى دروسه إلى تقدير التضحية والاستبسال فى نصرة الحق، وتساءل لماذا يضيق الفرنسيون بكفاحنا لتحرير بلادنا، ويعدون ذلك جرماً وهم يقدسون السيدة “ جان دارك “ لأنها بذلت وسعها فى سبيل
وطنها ؟ أليست لديهم مثالاً يحتذى ؟
ولم يعجب هذا الكلام إدارة الحماية الفرنسية فقررت اعتقاله .. ووافق الاعتقال أن بعض الناس كان يدعو للتقارب بين المسيحية والإسلام، فكتبت رسالة للبابا بيوس الثانى عشر منبهاً إلى ما حدث، ومذكراً بأن عالماً مسلماً لديه هذا التفتح الفكرى لا يسوغ أن يلقى هذا المسلك، وأنه لن يعقب هذا إلا توسيع شقة الخلاف بين مسلمى المغرب والنصارى المقيمين فيه !
وزارنى بعد تحرير الرسالة الأستاذ “ ماسينيون “ المعروف بتدينه وإخلاصه الشديد لمسيحيته، فأنعم النظر فيها ثم قال لى: هل أنت مخلص فيما تبديه من رغبة التقريب بين المسلمين والمسيحيين، على أساس القيم الأخلاقية المشتركة بين الدينين ؟
قلت: نعم أيها السيد الجليل، ولو لم أكن مخلصاً ما كتبت هذه الرسالة فى وقت أتهيأ فيه لجراحة خطيرة قد ألقى فيها ربى، وأنا أتطلع إلى عفوه . قال: ثق أن البابا لن يستجيب لك ولا لغيرك لأنه يأخذ المال من الصهاينة . ولما رآنى استغربت قوله، قال لى: يا سيد علال لا تستغرب، وما يفعله البابا لا يجعلنى أتخلى عن مسيحيتى، كما أن قولى هذا لا يخرجنى عن دينى الذى تعلم مقدار تمسكى به .
وقد صدق “ ماسينيون “، فإن البابا لم يكلف نفسه عناء الرد على رسالتى .. “ وماسينيون “ مستشرق كبير، وكان عضواً فى مجمع اللغة العربية، وكان فيما أعلم مستشاراً لوزارة المستعمرات الفرنسية، وهو شديد التعصب للنصرانية .
والبابا الذى تحدث عنه “ ماسينيون “ غير البابا الذى أصدر الوثيقة الشهيرة بتبرئة اليهود .
ترى كم أخذ الأخير ؟
المهم أن النصرانية فى الغرب اتفقت مع اليهودية على ضرب الإسلام، وأنها تحاول جر النصرانية فى الشرق إلى موقف مشابه، فهل ستجد لها عوناً على هذا العرض الخسيس ؟؟
ما الذى دفع القسيس اللبنانى إلى عرقلة تحرير المغرب والجرى فى ركاب المستعمرين والسفر إلى الدول الأمريكية الجنوبية لإقناعها بالتصويت ضد استقلال بلد عربى مظلوم ؟
ـ نحن نطلب من النصارى الذين يحيون فى ربوع العالم الإسلامى أن تقر أعينهم بالحرية الدينية المتاحة لهم دون مَنٍ ولا أذى .
ـ ونطلب منهم أن يرعوا حقوق المواطنة وحرمات الجوار وقرابة الجنس واللغة وأعباء المشاركة الكريمة فى بناء حضارة لا حقد فيها ولا دس ولا تربص فيها ولا شماتة ..
ـ ونطلب منهم أن يصموا آذانهم عن نداءات الغدر والتشفى إذا ما ألمت بالمسلمين ملمة .
إنهم إن بطروا معيشتهم لم يفلتوا من عدالة السماء “ وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً وكنا نحن الوارثين “ (القصص: 58)
ـ أما أن يروا مسجداً يبنى فيحاولوا أن تكون أبراج الكنايس أعلى من مئذنته !! فهذه محاولة منكورة .
ـ أما أن تكفيهم لأداء العبادة كنيسة واحدة فيبنوا مثنى وثلاث ورباع فذلك ما لا مساغ له ..
ـ أما أن يروا التبشير الأجنبى قد تعاون مع الاستعمار العالمى على تضليل المسلمين وإزاغة قلوبهم فيشاركوا هم أيضاً فى حرب المنشورات وفتنة السذج فتلكم خيانة ربما كانت تمهيداً لمثل ما فعله المعلم “ يعقوب حنا “ الذى خان مصر وانضم إلى الغزاة الفرنسيين !!
لقد انتهز الفاتيكان فرصة هزيمة سنة 1967 فأرسل سماسرته ليشتروا الأرض من العرب المحرجين فى مدينة القدس، وهذا تصرف محقور .
ونحن نعلم أن شوارع بأسرها تكاد تشترى فى مدن مصر وقراها لينكمش الإسلام فوق تربتها، ويتحول المسلمون عليها غرباء، فلم ذلك ولحساب من ؟
إن حرب شراء الأراضى واحتكار المبانى بدأت فعلاً، ولكى نبصر المسلمين بنتائجها نذكر لهم قصة “ قبرص “ كما ذكرنا فى كتابنا “ مع الله “ وقصة سنغافورة التى كانت فيما مضى (!) مسلمة السكان والحكم، وأمست الآن لا صلة لها بالإسلام !!
قبرص
فتحت قبرص فى المد الإسلامى الأول على عهد الخلافة الراشدة، فتحها معاوية بن أبى سفيان حين كان والياً على الشام، وكانت شئونها الإدارية تتبع إحدى المحافظات السورية لموقعها شرقى البحر المتوسط .
ومذ دخلها العرب ونشأ فيها الإسلام لم تتغير أوضاعها المعنوية ولا الإدارية، فقد أصبحت بلداً مسلماً منذ أربعة عشر قرناً .
وبعد انتهاء الخلافة العربية ورثت الخلافة التركية قبرص فيما ورثت من ديار الإسلام الشاسعة، إلا أن الترك فى القرن التاسع عشر كانوا يترنحون تحت الفساد السياسى الذى نخر كيانهم والضغط الصليبى الذى قطع أوصالهم، فوثبت إنجلترا ـ أم الخبائث فى ميدان الاستعمار ـ على قبرص، وجعلتها قاعدة عسكرية لها بعدما أبرمت اتفاقاً مع العثمانيين بردها إليهم عندما تستغنى عنها (!)
وبدأ الإنجليز يستقدمون العمال اليونانيين بكثرة ليخدموا فى القاعدة العسكرية، ثم بدأوا يغرونهم بالتوطن فى الجزيرة .
فما هى إلا سنوات حتى كثر عددهم، وزاحموا المسلمين مزاحمة شديدة سواء كانوا تركاً أو عرباً فأخذ الميزان السكانى يتذبذب، ثم أصبح ربع السكان من المسلمين الأتراك،والثلاثة أرباع من اليونانيين المسيحيين ..
وما أن شعر المسيحيون بتفوقهم العددى حتى طلبوا الاستقلال تمهيداً للانضمام إلى اليونان، ولم تكن الجزيرة يوماً تابعة لليونان .
وكان جزع المسلمين شديداً لأن هناك مسلمين يونانيين فى إقليم “ قولة “ وما جاوره ذوبهم الاضطهاد والإذلال، وأخذوا فى الانقراض دون ضجة !
ومن هنا طلب المسلمون أن تقسم الجزيرة بينهم وبين اليونانيين الوافدين، ولكن يرضى القتيل وليس يرضى القاتل، فإن السيد مكاريوس يريد فرض نفسه بوصفه صاحب الجزيرة .
والمهم أن جمال عبد الناصر أيده كما نشرنا آنفاً، وأوعز إلى شيوخ الأزهر أن يقدموا له التحيات المباركات ..
ولا أدرى كيف يقع هذا، ولكن الذى أدريه أن زعيم القومية العربية استبعد من علماء الأزهر أن
يقولوا: لا ..
وجعل على قمة المعهد اليائس من تعفنت ضمائرهم من طول البلى .
وهكذا يموت الإسلام، وتنهزم قضاياه .
العقيد الناصرى
قلت لأحد قدامى الإخوان: ما رأيك فى العقيد القذافى ؟ [ نؤثر أن يعرفه القراء بـ“العقيد الناصرى“] قال: نتمنى له التوفيق فى خدمته للإسلام، لقد جمع من خبراء الفقه والقانون من يعاونون على إعادة الشريعة الإسلامية إلى الحياة، وهذا سعى مشكور، وقد حسبته أول ما قام بثورته من جماعة الإخوان، لأنه تبنى أفكارهم ومبادئهم، ما انتقص منها ولا زاد عليها، ولما تناول الإخوان بالسوء قلت: لعلها تقية حتى يتركه الخصوم ـ خصوم الإسلام ـ يمضى فى طريقه دون اتهام ولا تعويق ..
فرددت على هذا الأخ القديم: وهل لا زلت على رأيك الأول ؟ وهو يتهم جماعتكم بالتعاون مع الاستعمار، ويعتقل فى أنحاء ليبيا من يظن بهم الانتماء إلى الجماعة ؟
قال: إننى فى حيرة، وما أحسبنى كنت واهماً عندما عددته من الجماعة، إنه ليس فقيهاً إسلامياً ولا مفكراً إنسانياً يمكن وصفه بأنه أتى من عند نفسه بما أتى به . إنه يردد كل ما كتبه الإخوان من نظرات اقتصادية وسياسية للشريعة الإسلامية .. وأنت خبير بأن ما نشر فى أرجاء العالم الإسلامى والعربى من هذه الكتابات هو لمؤلفى الإخوان أو لأصدقائهم العاملين معهم فى هذا الحقل، والمتعرضين معهم للاضطهاد والبلاء .. لقد تبناه العقيد القذافى بما فيه من خطأ أو صواب !!
قلت: أى خطأ ؟
قال: إنك أصدرت فى أوائل الأربعينات عدة كتب فى هذا الموضوع، ثم نشر الأستاذ “ سيد قطب “ رحمه الله فى أواخر الأربعينات كتاب “ العدالة الاجتماعية “، ثم نشر الأستاذ “ مصطفى السباعى “ كتابه “ اشتراكية الإسلام “ فى أوائل الخمسينات، وفى هذه الغضون تمت ترجمة رسائل الأستاذ “ أبى الأعلى المودودى “، وقد خلطتم الإسلام بالاشتراكية على نحو لا يرضى أعداداً من المسلمين !!
قلت: إننا أرينا الأجيال الناشئة من ديننا ما يغنى عن استيراد الفلسفات الأجنبية الشاردة، وأنا شخصيا قد أكون تجوزت فى بعض العبارات لكن جوهر الموضوع إنصاف رائع لديننا الحنيف .
قال: على أية حال، فمن هذه الكتابات كلها نقل “ القذافى “ ما أسماه بالنظرية الثالثة، وهى تسمية نرفضها ولو سلمنا بها فإن السؤال المحير هو: لماذا يستمد من الإخوان ثم يهاجمهم ؟
واستأنف محدثى الكلام: إن الإخوان حاربوا ألوان الاستعمار جميعاً من قبل أن يولد الزعيم الشاب .. حاربوا اليهود سنة 1948 وردوهم على أعقابهم بعدما وصلوا العريش وكادوا يحتلون أجزاء من مصر، حاربوا الإنجليز على شواطئ القناة، وزلزلوا أقدامهم ونسفوا معسكراتهم، وأرغموهم على التفكير الجاد فى الجلاء نجاة بأنفسهم .. حاربوا الماركسية والإلحاد بعدما غمر الجامعات، واستحدثوا تياراً من الإيمان والاستعفاف جدد القيم فى المجتمع المصرى، وألقى الرعب فى صفوف أعداء الحق .
ثم قال صاحبى فى حماس: إن اصطياد التهم للجماعة على هذا النحو الشائن لا يمكن أن يكون إلا لحساب الاستعمار، حتى لا يتكون جيل من المؤمنين الأحرار يقاوم الصهيونية، ويحمى الأمة المحروبة تيارات التخريب النفسى والخلقى ..
قلت: ولعله عدم إلمام بالتاريخ القريب، أو لعل إشاعات سبقت إلى فكر الرجل من أناس خدع بهم فصدق دعواهم .. !!
رأيى أن العقيد القذافى يمكن أن يتفاهم معه، وأن يراجع نفسه فى بعض الأحكام ..
لقد استمعت إلى المحاضرة التى ألقاها فى مقر “ اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى “ بالقاهرة، والتى خلص منها إلى أن المسيحى رجل يعبد الله على طريقة عيسى بن مريم، فهو بذلك مسلم لأن أتباع عيسى مسلمون بنص القرآن الكريم .
أما أن أصحاب عيسى الأوائل مسلمون، عبدوا الله الواحد، وصدقوا رسوله عيسى فهذا ما أجمع المسلمون عليه ..
وأما الزعم بأن الذين عبدوا عيسى نفسه مسلمون، فهذا ما لم يقله أحد ! فإن الخصومة بيننا وبين النصارى أنهم لا يتبعون عيسى، عبد الله ونبيه إلى بنى إسرائيل، لا يتبعون الإنسان الذى قال: “ إن الله ربى وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم “ .
إنهم يتبعون شيئاً اسمه ابن الله الوحيد، الذى ضحى به على الصليب قرباناً لتكفير الخطايا، وهو الرب يسوع المسيح، فهل هذا إسلام ؟
لقد وصف الإسلام هذا القول بالكفر “ وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين “ (الزخرف:15)
وليس يعطى كلام العقيد القذافى أية وجاهة أن مجلس قيادة الثورة أقره وتبناه !!
أخشى أن يطرد القياس ويقال: إن اليهودى إنسان مسلم يعبد الله على طريقة موسى الكليم، وبذلك تنحل المشكلات القائمة بين العرب واليهود .
فالكل حسب هذا المنطق مسلمون، ينبغى أن يتفسحوا فى المجالس والأوطان، وأن يسع بعضهم بعضاً دون شحناء ولا بغضاء .
إن العقيد يظلم نفسه إذ يخوض فى هذه البحوث ويقرر هذه النتائج .. ثم يبقى بعد ذلك كله أمر مهم، هل للعدالة مكانها فى سلوك الحكام المسلمين أم لا ؟
إن الله عز وجل يقول فى كتابه: “ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم ألا تعدلوا . اعدلوا هو أقرب للتقوى “ (المائدة: 8)
ومعنى ذلك أن يحكم العقل والإنصاف مشاعر الحقد والغضب .
مهما كرهت فرداً أو جماعة فلا يجوز إذا كنت تقياً أن أسترسل مع هواى فى سجن خصومى أو تعذيبهم أو تهديد حاضرهم ومستقبلهم ..
والمألوف فى أرض الله كلها ـ عدا الغابات وما إليها ـ أن يحقق مع المتهم، وأن يمنح حق الدفاع عن نفسه، وأن يمحص القاضى ما نسب إليه فى نزاهة، ثم يصدر الحكم فى أناة وتبصر بالإدانة أو التبرئة ..
أما القذف بالناس فى السجون لأن الحاكم رأى ذلك فشىء منكر جعله القرآن الكريم قرين سفك الدم الحرام، وعابه على اليهود فى قوله: “ ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان “ (البقرة 85) .
لماذا يشرد الطالب عن داره فلا يتم تعليمه أو رب الأسرة عن بيته فتتعرض زوجته وأولاده للمآسى والمعاصى؟؟
إن الحاكم الذى ينتسب إلى الإسلام يستحيل أن يتدلى إلى هذه المسالك ..
إننى أحد الذين اعتقلوا يوم كنت منتسباً إلى جماعة الإخوان، وحتى بعد فصلى من الجماعة اعتقلت لأنى لم أتخل عن العمل الدينى .
إننى ما سئلت عن شىء قبل أو بعد الاعتقال، لأنه لم يكن هناك ما أسأل عنه ! غير أن التجارب التى ذقتها والمشاهد التى رأيتها جعلتنى أزداد رسوخاً فيما كنت أقوله باستمرار: إن الحرية نعمة جليلة رائعة، وإن العدوان عليها سيئة مضاعفة الوزر شديدة العقاب .
إن طراز الحكم فى العالم العربى إن لم يضبط داخل الإطار الإسلامى فسيكون معرة للإسلام تُنفِّر منه بل تثير السخريةَ به !!
والذى “ لا يسأل عما يفعل وهم يسألون “ هو الله الواحد الذى لا معقب على حكمه، ومع ذلك الاقتدار للكبير المتعال فهو يقول:” يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا “ (رواه أحمد: 5/160، ومسلم فى كتاب البر وغيرهما)
فهل ذلك ما يبيح لحكامنا أن يستغلوا سلطانهم الموقوت فى ضرب الناس وسجنهم دون ما سبب ؟
ومن الذين يهانون ؟ متهمون بالدعوة إلى الإسلام ؟!
“ يا حسرة على العباد “ .. !!!
إن قلبى يتفطر عندما أرى الدم الإسلامى أرخص دم على الأرض .. لقد استباحه المجوس واليهود والنصارى والوثنيون والملحدون .. وحكام مسلمون !!
ولا ريب أن المدافعين عن الإسلام تكتنفهم ظروف صعبة معقدة، غير أنه بين الحين والحين ينبجس من روح الله ندى يواسى الجراح ويهون الكفاح ويبشر بالصباح ..
ومهما كانت الأوضاع محرجة فلا بد من بقاء الدعوة الإسلامية مرفوعة الراية واضحة الهداية تعلن الحق وتبسط براهينه وتلقف الشبه وتوهى إسنادها ..
إن محمداً ليس وقفاً على عصر أو جنس، إن رسالته للقارات الخمس ما بقى الزمان وعلينا أن ننهض بهذا العبء ..
وحتى تعود “ الخلافة الإسلامية “ ـ وإعادتها فرض عين ـ لتتولى هذه المهام يجدر بنا أن نتبع ما يأتى:
ـ إعادة النظر فى مناهج تعليم الإسلام فى شتى مراحل الدراسة العامة .. وإعادة النظر فى مناهج التعليم الدينى نفسه لتخريج فئات أوسع دراية وأحد بصراً .
ـ اختيار الدعاة وفق مواصفات أدق وأرقى مما يتبع الآن، وتوسيع آفاق الدعوة الإسلامية أو الإعلام الإسلامى بحيث تستوعب ميادين النشاط الإنسانى جميعاً .
ـ إقامة حلقات اتصال بين الجامعات الإسلامية الموجودة الآن فى عواصم الإسلام كلها لتبادل الخبرة والمشورة العلمية والعملية ..
ـ عقد مؤتمرات دورية متصلة لبحث مشكلات الدعوة ورصد الهجمات المنظمة ضد الإسلام ووضع الخطط المناسبة لخدمة الرسالة الإسلامية .
ـ بسط الرعاية الدينية على المسلمين المهاجرين إلى الخارج والإفادة من مواضعهم الاجتماعية والثقافية حتى يكونوا معابر لرسالتنا العظيمة، بدل أن يذوب هؤلاء فى دوامة الحياة الغربية ..
ـ التقاط الفارين من وجه الحكومات المعادية للإسلام فى أفريقيا وغيرها وتيسير التحاقهم بالمدارس والمعاهد العربية ليعودوا أقدر على قيادة أممهم ورد الفتن عنهم ..
ـ دراسة المؤتمرات التبشيرية المحلية والعالمية واستكشاف المؤامرات المبيتة ضدنا .
ـ وبديهى أن ذلك كله لن يتحقق كلاً أو جزءاً إلا فى ظل حكومات تحترم الإسلام، وترى نفسها مسئولة أمام الله عن القيام بحقوقه .
ـ وليست كل الحكومات العربية كذلك، فهناك من يكره الإسلام والحدث عنه، وهناك من يقبله عبادات لا معاملات، وعقيدة لا شريعة ويرفض الدعوة إلى تطبيقه كله .
ـ وهناك من يمهد لاستقبال الشيوعية ومن يمهد لاستقبال العلمانية .
ـ ولا تعليق على هذا الارتداد السافر أو المحجب إلا أن نقول:
على الشعوب أن تتحرك وإلا تعرضت للفناء، عقوبة من رب السماء !!
* * * * *
التواضع لله من دلائل الرشد وأمارات الإيمان، بل هو من علامات الصحة العقلية والنفسية، فإن المعجب بنفسه المتكبر على غيره إنسان لم يعرف حقيقته، ولم يتصرف فى نطاق هذه الحقيقة فهو مصدر تعب وقلق حيث كان ..!
ومبلغ علمى أن أصحاب المواهب النفسية متواضعون، وأن الذى رزقهم النبوغ لم يشنهم بهذا اللون من الجهالة، فهم يضعون تفوقهم الشخصى فى خدمة الآخرين، وبقدر ما فى معادنهم من صلابة يبتذلون أنفسهم لأمتهم ومبادئهم، دون قلق على مكانة موهومة أو منزلة مزعومة !
أما الذين يستخفون وراء أسوار من المراسم والشارات فأغلبهم هش المعدن قريب العطب .
وأغلب من عرفت من المتكبرين أقوام صغار المواهب يسترون علاتهم بافتعال مظاهر لا أصل لها !!
ولو أن امرءاً ما استكبر بعلم حقيقى، أو بطولة رائعة، أو مال ممدود، أو قيادة حكيمة، أو غير ذلك من أسباب الرفعة .. لكان مخطئاً أفدح الخطأ .. لماذا ؟ .. لأن واهب النعمة والخير والبروز هو الله جل شأنه .
والإنسان جسر يعبر عليه الفضل الأعلى، ومجلى لهذه العارية الطارئة عليه من غيره لا من ذاته، فلم الكبرياء على الله ؟
ما أحسن قول الرجل المؤمن لأخيه المغتر بثرائه:
“ ولولا إذ دخلت جنتك قلت: ما شاء الله لا قوة إلا بالله “ (الكهف: 39)
إن المدل بجماله لم يصنع شيئاً من ملامحه الوسيمة، وذوو المواهب العليا رزقهم التفوق من خلقهم ومهد لهم واختبرهم بما أتى، فلماذا الغرور بالنفس ؟
ولنترك هذا الكبر الذى لا يعتمد على سناد أى سناد فى تفكير أصحابه ..
ولننظر إلى قوم آخرين يستكبرون بالهباء أو بما لا يزن شيئاً طائلاً ..
وقد كثر هذا النوع فى بلادنا، وتوزع على مناصب شتى هنا وهناك، ومسخت دعاواهم كل شىء .
ترى الواحد منهم فقيراً فى معرفته، ضئيلاً فى إنتاجه، ومع ذلك يرمق الحياة والأحياء بالنظر الشزر، ويعامل الناس معاملة العملاق للأقزام، والفيلسوف للعوام ..
فى غير ميدان قابلت هؤلاء يتكلمون، أو يعملون، أو يحكمون فرأيتهم حراصاً على الظهور فى شارات الناس الكبار على حين تضعهم أقدارهم وثمارهم فى المستوى الهابط والمكانة النازلة !!
قلت فى نفسى: الناس يستكبرون بالعلم وهؤلاء يستكبرون بالجهل . الناس قد تأخذهم العزة بالطاقة وهؤلاء تأخذهم العزة بالإثم . ما أشقى بلادنا بهؤلاء ..
لو أدرك هؤلاء ما فى كفايتهم من نقص لاستكملوه ! .. لكن الحجاب المسدل على بصائرهم خيل إليهم أنهم عباقرة، فعاشوا ينكبون الناس بقصورهم وغرورهم ..
وربما اغتر الأعور بنصف بصره بين لفيف العميان .
أما أن يغتر بعاهة بين أصحاب البصر الحديد فهذه النكبة الجائحة .. !!
والعالم الآن مشحون بأصحاب المواهب المعجبة والخبرات الجيدة والتجارب المصقولة، والثروات الأدبية والمادية الهائلة .
فإذا سرنا نحن فى الموكب العالمى بهذه الحفنة من الأدعياء الفارغين فماذا يكون تقديرنا وماذا يكون مصيرنا ؟؟
والشخص التافه يفلسف الأوضاع حوله بما يشبع كبره، ويصدق وهمه، أى أنه بدلاً من أن يستيقظ على الحقائق اللاذعة ينظر إليها من جانب يرضيه ويطغيه .
وقد روت كتب الأدب القديم قصة هى على ما فيها من هزل صورة صادقة لكثير من ذوى المناصب المرموقة فى الأمة العربية الآن:
كان “ أبو حية “ النميرى جباناً يخيلاً كذاباً ! .. قال ابن قتيبة:
وكان له سيف يسميه “ لعاب المنية “ ليس بينه وبين الخشبة فرق، وكان أجبن الناس، دخل ليلة إلى بيته فسمع صوتاً لا عهد له به فانتضى سيفه، ووقف فى وسط الدار، وأخذ يقول:
“ أيها المغتر بنا، المجترئ علينا، بئس ـ والله ـ ما اخترت لنفسك: خير قليل، وسيف صقيل “ لعاب المنية “ الذى سمعت به، مشهورة ضربته، لا تخاف نبوته ..
“ اخرج بالعفو عنك قبل أن أدخل بالعقوبة عليك ! ..
“ إنى والله أن أدع قيساً إليك لا تقم لهم .. ! ..
“ وما قيس ؟ .. تملأ ـ والله ـ الفضاء خيلاً ورجلاً . سبحان الله ! ما أكثرها .. !! “
وبينا هو كذلك إذ خرج كلب من الدار، فقال:
“ الحمد الله الذى مسخك كلباً وكفانا حرباً !!! “
لست أبعد إذا قلت: إننى رأيت صوراً لهذا الجبان المستأسد فى بعض الساسة الذين كتبوا تاريخ الشرق العربى فى العصر الحديث ..
ـ العجز الحريص على الصدارة .
ـ الدعوى الفارضة نفسها على الواقع .
ـ الهوى الذى يطوى الأشخاص والأشياء والأحداث فى تياره ويضفى عليها صبغته الجادة أو الهازلة .
ذكرت الجنرال “ أيزنهاور “ قائد الحرب العالمية الثانية التى انتصرت فيها أمريكا وحلفاؤها، إن أمريكا لم تعط رجلها لقب “ ماريشال “ مع أنه خاض حرباً تم له فيها النصر بعد أن دمرت مئات المدن والقرى وقتل فيها وجرح سبعون ألف ألف شخص .
لكن ناساً فى الشرقين الأوسط والأقصى حصلوا على هذا اللقب دون أن يخوضوا حرباً أو يعانوا ضرباً .
فى البلاد المحترمة يصعد الأفراد من السفوح إلى القمم والعرق يتصبب من جبينهم، والإرهاق والتفكير يلاحقانهم بين آن وآخر .
.. وعلى هذا السنن البائس تجرى أمور العرب .
أما فى البلاد المتخلفة فإن ناساً يصلون إلى الذرى دون جهد يذكر اللهم إلا جهد الملق لملاك السلطة والاستعداد لخدمة الأهواء !!
وقديماً نظر البحترى إلى واحد من هؤلاء جعله “ الخليفة “ قائداً، وهو لا يصلح لقيادة ولا ريادة فقال:
ويكاد من شبه العذارى
فيه أن تبدو نهوده
ناطوا بمعقد خصره
سيفاً ومنطقة تؤوده
جعلوه قائد عسكر
ضل الرعيل ومن يقوده
فهل هذا اللون من الخلائق ترشحه مواهبه لهدف كبير ؟
وهل هؤلاء القادة “ بالتعيين “ لا بالخصائص “ النفسية والعقلية “ هم الذين يقودون العرب فى معركة البقاء !!
ألا ما أكثر الألقاب التى تمنح فى البلاد العربية .
وعرفت مديراً أجنبياً لمصنع كبير، قيل لى فى وصف إدارته:
“ تراه جوالاً بين الآلات والمكاتب مغبر الجبين بتراب العمل وعرقه، ملوث الثياب بالزيوت والشحوم التى تسقط عليه وهو تحت آلة يعالجها، أو فى طريق وعرة إلى مهمة ثقيلة !! “
فتذكرت شكوى أحد المربين وهو يصف لى بعض الشباب فى بلادنا العربية، قال: إنهم يبغون مكتباً أنيقاً يجلسون إليه و” تليفوناً “ يثرثرون فيه، ونمطاً من العيش لا يضنى ولا يقلق .
قلت: والله هذه أخلاق الهزيمة الضياع، وأصحابها هم عللنا المقعدة، وأما الرجال المعنيون بالعمل الحق، الحمالون لأعبائه الثقال فهم أصل النصر والتقدم !!
إننى أغوص فى بحر من الحيرة والأسف حين أرى عظماء العالم على جانب رائع من دماثة الخلق، ولطف المعاشرة، وسهولة الطبع وقلة التكلف، على حين ترى المتسولين من موائدهم متعجرفين متعاظمين كأنهم أتوا بالديب من “ ذيله “ كما يقول العوام فى أمثالهم .
إن بناة التاريخ من سلفنا الصالح كانوا يتميزون بخلقين:
ـ عظم الكفاءة .
ـ ونكران الذات .
ذلك ما استفادوه من إيمانهم الوثيق بالإسلام .
قدرة ملحوظة فى مجالات النشاط الإنسانى، وإخلاص لله يدفع أحدهم إلى الجود بما عنده: “ وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى “ (الليل: 19)
والغريب أن الخلف الطالح جاء على الضد فهو مكشوف العجز فى جنبات الدنيا مادياً وأدبياً وهو طالب شهرة يجرى وراءها كالطفل الغرير، ويريد أن يرمقه الناس بالتجلة على غير شىء !
إن خصومنا لم يخرقوا العادات فيما يفعلون ويتركون، لقد رأيتهم منطقيين فى شتى أحوالهم .
أما نحن فقد هبطنا عن المستوى العادى ولم نكن منطقيين فى تصرفاتنا ومن وراء هذا الخلل الجسيم البعثيون والقوميون الذين نفثوا سمومهم فى كل شىء فقد جرءوا العرب على قطع نسبهم إلى الإسلام ثم جرءوهم على اطراح عقائده وفضائله، ثم وثبوا على الحكم عقب انقلابات مصطنعة لا تتصل بالشعوب العربية من قريب أو بعيد، ثم أخذوا يتعسفون السير نحو أغراضهم على حطام من الداخل وإن كان الظاهر مزوقاً كانت النكبة ..
فهل تعلم العرب من هزائمهم المترادفة أن يثوبوا إلى رشدهم ؟
كلا .. ولقد راقبت الانقلابات التى وقعت فى أرجاء العالم الإسلامى وأزعجنى أنها وقعت لمحاربة عوج، وإقرار خير، فإذا العوج بعدها يزيد والخير ينكمش ..
واهتبل أعداء الإسلام الفرصة فضاعفوا أرباحهم فى بلاده، وإيهانهم لقضاياه حتى لكأنهم كانوا مع هذه الانقلابات على موعد !!
ففى أفريقيا حيث حيكت مؤامرات ماكرة لسحق الإسلام وطى أعلامه رأينا ديننا الجريح يدوخ تحت ضربات موجعة يفقد بعدها الكثير من تراثه وسلطانه وكرامته ..
ونشأ عن ذلك ـ فى أقرب البقاع علينا ـ أن ضاع السودان الجنوبى بجرة قلم وتحقق حلم الصليبية العالمية التى تسعى وراءه من خمسين سنة، فكسبت 250 ألف ميل مربع من الأرض .
وتاحت فرصة غريبة لعشر السكان المسيحى أن يتحكم فى البقية الضائعة ويمحو منه الإسلام .
وسنرى كم ستكسب “ إسرائيل “ من هذا التصرف .
إن أغلب الانقلابات التى حدثت رتب وظائف الدولة العليا والوسطى على أساس أهدرت فيه الكفاءات إهداراً مزعجاً ..
وتصور معيداً فى كلية يصبح عميدها، أو كاتباً فى محكمة يصبح رئيسها، لكن هكذا تجرى الأمور فى غيبة الدين والدنيا معاً .
لقد أبى المتنبى الذهاب إلى الأندلس، لأنه أدرك تفاهة حكامها من ضخامة الألقاب التى يحملونها، وكأن الرجل يصف أحوال العرب فى عصرنا هذا لا فى عصره هو عندما قال:
فى كل أرض وطئتها أمم
يقودها عبد كأنها غنم !
إن العرب الآن يخوضون معركة بقاء أو فناء ..
وفى غيبة الإيمان وتقاليده وشمائله عن مجتمعاتهم نمت أخلاق أخرى لا تصلح بها حياة ولا تضمن بها أخرى .
ومن الخير أن يتحسسوا هذا البلاء فى صفوفهم فيحسموه .
إن الحقائق تفرض نفسها طوعاً أو كرهاً مهما تجاهلناها، وعندما يكون الشعب شكلاً لا موضوع له فهو صفر .
وعندما يكون الرؤساء أوراقاً مالية ليس لها غطاء نقدى محترم فهم عملة زائفة، قد تروج بين المغفلين، ولكن إلى حين ..
على العرب أن يعيدوا تشكيل نفوسهم وصفوفهم ومتقدميهم ومتأخريهم وفق القانون الإلهى العتيد “ ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب . من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً “ (النساء: 123) .
ـ ما يفعل الله للعرب إذا كان خصومهم يحترمون كلام أنبيائهم ورؤساء العرب يستهينون بكلام نبيهم؟ ـ ما يفعل الله للعرب إذا كان خصومهم فى كل ميدان يقودهم أقدرهم وأشجعهم، أما قادة العرب فأخلاط من الناس فرضتهم فى أماكنهم حظوظ سيئة ؟
ـ ما يفعل الله للعرب إذا كانوا يهزلون وخصمهم جاد ؟
لا بد من إعادة النظر فى شأننا كله، وإلا حقت علينا كلمة ربك .
دين زاحف مهما كانت العوائق
كلما قرأت أبواب الفتن فى كتب السنة شعرت بانزعاج وتشاؤم، وأحسست أن الذين أشرفوا على جمع هذه الأحاديث قد أساءوا ـ من حيث لا يدرون ومن حيث لا يقصدون ـ إلى حاضر الإسلام ومستقبله !
لقد صوروا الدين وكأنه يقاتل فى معركة انسحاب، يخسر فيها على امتداد الزمن أكثر مما ربح !
ودونوا الأحاديث مقطوعة عن ملابساتها القريبة فظهرت وكأنها تغرى المسلمين بالاستسلام للشر، والقعود عن الجهاد، واليأس من ترجيح كفة الخير لأن الظلام المقبل قدر لا مهرب منه .
وماذا يفعل المسلم المسكين وهو يقرأ حديث أنس بن مالك الذى رواه البخارى عن الزبير بن عدى قال: شكونا إلى أنس بن مالك ما نلقى من الحجاج فقال: اصبروا فإنه لا يأتى عليكم زمان إلا الذى بعده شر منه حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم “ !!
وظاهر الحديث أن أمر المسلمين فى إدبار، وأن بناء الأمة كلها إلى انهيار على اختلاف الليل والنهار !
... نذكرها، كما يخالف الأحداث التى وقعت فى العصر الأموى نفسه !
فقد جاء الوليد بن عبد الملك فمد رقعة الإسلام شرقاً حتى احتوت أقطاراً من الصين وامتدت رقعة الإسلام غرباً حتى شملت أسبانيا والبرتغال وجنوب فرنسا .
ثم تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز فنسخ المظالم السابقة، وأشاع الرخاء حتى عز على الأغنياء أن يجدوا الفقراء الذين يأخذون صدقاتهم !
ولقد أتى بعد أنس بن مالك عصر الفقهاء والمحدثين الذين أحيوا الثقافة الإسلامية وخدموا الإسلام أروع وأجل خدمة، فكيف يقال: إن الرسالة الإسلامية الخاتمة كانت تنحدر من سيئ إلى أسوأ ؟؟ هذا هراء .
الواقع أن أنساً رضى الله عنه كان يقصد بحديثه منع الخروج المسلح على الدولة بالطريقة التى شاعت فى عهده ومن بعده، فمزقت شمل الأمة، وألحقت بأهل الحق خسائر جسيمة، ولم تنل المبطلين بأذى يذكر .
ـ وأنس بن مالك أشرف ديناً من أن يمالئ الحجاج أو يقبل مظالمه، ولكنه أرحم بالأمة من أن يزج بأتقيائها وشجعانها فى مغامرات فردية تأتى عليهم، ويبقى الحجاج بعدها راسخاً مكيناً !
ـ وتصبيره الناس حتى يلقوا ربهم ـ أى حتى ينتهوا هم ـ لا يعنى أن الظلم سوف يبقى إلى قيام الساعة، وأن الاستكانة الظالمة سنة ماضية إلى الأبد !
إن هذا الظاهر باطل يقيناً، والقضية المحدودة التى أفتى فيها أنس لا يجوز أن تتحول إلى مبدأ قانونى يحكم الأجيال كلها ..
لقد سلخ الإسلام من تاريخه المديد أربعة عشر قرناً، وسيبقى الإسلام على ظهر الأرض ما صلحت الأرض للحياة والبقاء وما قضت حكمة الله أن يختبر سكانها بالخير والشر .
ويوم ينتهى الإسلام من هذه الدنيا فلن تكون هذه دنيا لأن الشمس ستنطفئ والنجوم ستنكدر، والحصاد الأخير سيطوى العالم أجمع !
فليخسأ الجبناء دعاة الهزيمة وليعلموا أن الله أبر بدينه وعباده مما يظنون .
لقد ذكر لى بعضهم حديث “ بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء “ [ رواه أحمد
والجماعة ] وكأنه يفهم منه أن الإسلام سينكمش ويضعف وأن على من يسمع هذا الحديث أن يهادن الإثم، ويداهن الجائرين ويستكين للأفول الذى لا محيص عنه !
وإيراد الحديث وفهمه على هذا النحو مرض شائع قديم .
ولو سرت جرثومة هذا المرض إلى صلاح الدين الأيوبى ما فكر فى استنقاذ بيت المقدس من الصليبيين القدامى!
ولو سرت جرثومة هذا المرض إلى سيف الدين قطز ما نهض إلى دحر التتار فى “ عين جالوت “ !
ولو سرت جرثومة هذا المرض إلى زعماء الفكر الإسلامى فى عصرنا الحاضر ابتداء من جمال الدين الأفغانى إلى الشهداء والأحياء من حملة اللواء السامق ما فكروا أن يخطوا حرفاً أو يكتبوا سطراً !
وقلت فى نفسى: أيكون الإسلام غريباً وأتباعه الذين ينتسبون إليه يبلغون وفق الإحصاءات الأخيرة ثمانمائة مليون نفس ؟
يا للخذلان والعار !
الواقع أن هذا الحديث وأشباهه يشير إلى الأزمات التى سوف يواجهها الحق فى مسيرته الطويلة فإن الباطل لن تلين بسهولة قناته بل ربما وصل فى جرأته على الإيمان أن يقتحم حدوده ويهدد حقيقته، ويحاول الإجهاز عليه !
وعندما تتجلى الظلماء عن رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، يقاومون الضلال بجلد، ولا يستوحشون من جو الفتنة الذى يعيشون فيه، ولا يتخاذلون للغربة الروحية والفكرية التى يعانونها، ولا يزالون يؤدون ما عليهم لله حتى تنقشع الغمة ويخرج الإسلام من محنته مكتمل الصفحة، بل لعله يستأنف زحفه الطهور فيضم إلى أرضه أرضاً وإلى رجاله رجالاً .
وذلك ما وقع خلال أعصار مضت، وذلك ما سيقع خلال أعصار تجىء، وهذا ما ينطق به حديث الغربة الآنف، فقد جاء فى بعض رواياته:
“ طوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدى من سنتى “ [ راجع فى روايات الحديث كلها كتاب “ غربة الإسلام “ لابن رجب الحنبلى ] فليست الغربة موقفاً سلبياً عاجزاً، إنها جهاد قائم دائم حتى تتغير الظروف الرديئة ويلقى الدين حظوظاً أفضل .
وليس الغرباء هم التافهون من مسلمى زماننا، بل هم الرجال الذين رفضوا الهزائم النازلة وتوكلوا على الله فى مدافعتها حتى تلاشت !
والفتن التى لا شك فى وقوعها والتى طال تحذير الإسلام منها فتنة التهارش على الحكم والتقاتل على الإمارة ومحاولة الاستيلاء على السلطة بأى ثمن، وما استتبعه ذلك من إهدار للحقوق والحدود، وعدوان على الأموال والأعراض .. وهذا المرض كان من لوازم الطبيعة الجاهلية التى عاشت على العصبية العمياء ..
والعرب فى جاهليتهم ألفوا هذا الخصام والتعادى، فهم كما قال دريد بن الصمة:
يغار علينا واترين فيشتفى
بنا إن أصبنا أو نغير على وتر
قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا
فما ينقضى إلا ونحن على شطر
وما رواه أحمد عن تميم الدارمى يؤيده ما رواه عن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول “ لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام يعز عزيزاً ويذل ذليلاً، أما الذين يعزهم الله فيجعلهم من أهلها وأما الذين يذلهم الله فيدينون لها “ [ رواه ابن حبان كما فى الزوائد للهيثمى رقم (1621) وجماعة . راجع الأحاديث الصحيحة للألبانى (1 / 7) ] .
وكذلك ما رواه عن قبيصة بن مسعود: صلى هذا الحى من محارب ـ اسم قبيلة ـ الصبح، فلما صلوا قال شاب منهم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها، وإن
عمالها ـ أمراءها ـ فى النار إلا من اتقى وأدى الأمانة “ .
ويقول صاحب المنار فى نهاية تفسيره لقوله تعالى: “ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم .. “: اعلم أن الاستدلال بما ورد من أخبار وآثار فى تفسير هذه الآية لا يدل هو ولا غيره من أحاديث الفتن على أن الأمة الإسلامية قد قضى عليها بدوام ما هى عليه الآن من الضعف والجهل كما يزعم الجاهلون بسنن الله اليائسون من روح الله، بل توجد نصوص أخرى تدل على أن لجوادها نهضة من هذه الكبوة، وأن لسهمها قرطة بعد هذه النبوة كالآية الناطقة باستخلافهم فى الأرض ـ سورة النور ـ فإن عمومها لم يتم بعد، وكحديث “ لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً، وحتى يسير الراكب بين العراق ومكة لا يخاف إلا ضلال الطريق “ رواه أحمد ..
“ والشطر الأول منه لم يتحقق بعد، ويؤيده ويوضح معناه ما صح عن مسلم من أن ساحة المدينة المنورة سوف تبلغ الموضع الذى يقال له اهاب، أى أن مساحتها ستكون عدة أميال، فكونوا يا قوم من المبشرين لا من المنفرين .. “ ولتعلمن نبأه بعد حين “ .
وخطأ كثير الشراح جاء من فهمهم أن ترك الشر هو غاية التدين وأن اعتزال الفتن هو آية الإيمان .
وهذا عجز سببه ضعف الهمة وسقوط الإرادة .
وإنى لأذكر فيه قول المتنبى:
إنا لفى زمن ترك القبيح به
من أكثر الناس إحسان واجمال
أجل، فإن ترك الصغائر غير بلوغ الأمجاد، وتجنب التوافه والرذائل غير إدراك العظائم وتسنم الهام، والتلميذ الذى لا يسقط شىء والذى يحرز الجوائز شىء آخر !
والرسول الكريم عندما يأمرنا باعتزال الفتن لا ينهى واجبنا عن هذا الحد ..
سوف يبقى بعد ذلك الاعتزال الواجب بناء الأمة على الحق ومد شعاعاته طولاً وعرضاً حتى تنسخ كل
ظلمة ..
ولا نمارى فى أن تصدعات خطيرة أصابت الكيان الإسلامى قديماً وحديثاً .. بيد أن الضعاف وحدهم هم الذين انزووا بعيداً يبكون، ويتشاءمون، وينتظرون قيام الساعة !!
أما الراسخون فى العلم فقد أقبلوا على رتق الفتوق، وجمع الشتات، وإعادة البناء الشامخ حتى يدركهم الموت أو القتل وهم مشتغلون بمرضاة الله، حتى يبلغ الإسلام مواقع النور والظل من أرض الله أو كما قال الرسول العظيم “ ما بلغ الليل والنهار “ ..
قال الإنسان وقال الحيوان
نحن نعلم أن عدداً من حملة الأقلام قد صنعت رؤوسهم خارج هذه البلاد، وأن تصورهم لكثير من الحقائق وحكمهم فى كثير من القضايا لا صلة له بتراثنا ولا ارتباط له برسالتنا، وأن آخر ما يكترثون له أو يهتمون به هو الإسلام وحاضره ومستقبله، وإن كانت أسماؤهم إسلامية .
وكنت أحسب أن معركة المصير بيننا وبين بنى إسرائيل ستكرههم على مراجعة أنفسهم وتصحيح أخطائهم، ولكننى كنت واهماً .
لقد استيقظ بنو إسرائيل وهاجت فى دمائهم غطرسة الماضى، وانحرافات التدين ولوثات التعصب، وهجموا على بلادنا يبغون محو أمة وحضارة، وفى أيديهم كل ما استحدث العلم من أدوات الفتك !
وفى ملاقاة هذا العدوان تقرأ لكاتب روايات مصرى إنه مسرور من الجيل الحاضر لأنه يحسن الرقص والغناء !
قبحك الله من كاتب مكفوف البصيرة !
وفى هذا الاتجاه الضرير ينشر كاتب آخر مقالات مسهبة عن “ الشخصية المصرية “ يمهد فيها طريق الشهوة ويرسم لها الأهداف الوضيعة .
وتستغرب وأنت تقرأ فى صحيفة الأهرام مقالاته، فى أى عصر يعيش هذا الكاتب، ولأى جيل يكتب ؟
نعم لقد ذهب “ توفيق الحكيم “ إلى باريس لا ليسأل: كيف دخل الفرنسيون النادى الذرى ؟ ولا ليبحث كيف يحاول جواسيس الصهيونية سرقة أسرار طائرات “ الميراج “ ؟ ولا ليحقق كيف أقامت فرنسا قوة ثالثة تريد أن تضارع جبابرة الأرض ؟ لا .. إن شيئاً من ذلك لا يعنيه .
إنه ذهب ليزيد القراء العرب فهماً فى الأمور الجنسية، وليمد حريق الشهوات بوقود جديد يأتى على الأخضر واليابس ..
ذكر لنا الكاتب الجاد الناضج كيف أن زوجين لم يحسنا الوقاع ! وكيف أن طبيباً عالجهما حتى أحسناه ! وكيف شاهد مع الجمهور الفرنسى على “ شاشة المسرح “: التطبيق العملى من الزوجين لما سمعاه وعرفاه من الطبيب، فظهرا عاريين يمارسان هذه العلاقة فى أتم وأكمل وجوهها “ !
ويمضى كاتب الأهرام الوقور فى عرض ما راقه من صور فرنسية فيقول: “ صادقت فى الحى “ سينما “ أخرى تعرض قصة عنوانها “ الزواج الجماعى “ .. جماعة من الأزواج الشباب اتفقوا بينهم على أن يعيشوا فى حياة مشتركة وأن يتقاسموا بينهم كل شىء وأن يناموا فى حجرة واحدة، ونساؤهم مشاع لمن شاء منهم، للزوج أن يعاشر من تروق له من زوجات زملائه، وللزوجة أن تختار ما تريد من أزواج زميلاتها، كل ذلك بالرضا التام من الجميع، وكأن الأمر رغيف خبز تتناوله الأيدى والأفواه .. ثم شاهدنا هذه العلاقات الجنسية تتم أمامنا بكل تفصيلاتها التى تخدش الحياء .. “ الخ .
ونترك صورة هذا القطيع من الفتيات والفتيان المتصالح على الزنا الجماعى أو على الفسوق القذر .. لنترك هذا القطيع فى جوه المنتن لنقرأ كاتب الأهرام الفيلسوف “!” وهو يقرر رأيه فى هذا الموضوع .. قال “ جعلت أفكر فى الأمر مستعرضاً ما سبق من حضارات كبرى فوجدت بعض التشابه . إن سمة الحضارة فى كل عصر هى البحث عن الحقيقة، ولا حياء فى البحث عن الحقيقة، خصوصاً ما يتعلق بالإنسان وأسباب وجوده المادى والروحى، فكانت حضارة مصر القديمة والهند ترسم وتنحت فى المعابد بعض الأعضاء التناسلية رمزاً للحياة .. بل إن كتب الأدب العربى القديم لأمثال الجاحظ وابن عبد ربه كانت تتحدث عن الجنس كما تتحدث عن الطعام، وأكثر هذه الكتب لا يخلو من باب للطعام وباب للباه، وما كان أحد وقتئذ يرى فى ذلك بأساً ولا حرجاً، ولكن يظهر أنه عندما تأخذ الحضارات فى الانحطاط تكثر المحظورات، وتسدل البراقع على كثير من الموضوعات، إلى أن تمتد إلى روح المعرفة وعادة البحث فتصيبها بالشلل وبهذا يقتل العلم وتخسر الحضارة “ .
هذا هو فكر كاتب الأهرام الكبير ودرسه لتاريخ الحضارات السابقة واللاحقة ..
وظاهر من أسلوب الكاتب أنه لا يدرى شيئاً عن قضايا الحلال والحرام، ولا عن شرائع السماء فى السلوك الخاص والعام، ولا عن الطور العصيب الذى يمر به تاريخ العرب، بل سنرى أنه لا يدرى عن تاريخ الحضارات البشرية إلا هذه الأجزاء المبتورة عن التماثيل المقامة لأعضاء التناسل، واقتران الطعام بالباه فى كتب الأدب العربى القديم !!
ومع هذا التطور المزرى فهو كاتب كبير يملك حق التوجيه للأجيال الجديدة من أعلى المنابر .
إن علماء الدين ما نادوا فى بلادنا يوماً ما بكبت الغريزة الجنسية، ونحن نقدس فطرة الله التى فطر الناس عليها، ونحترم رغبة الذكر والأنثى فى لقاء مقنع مشبع، وسبيل ذلك الزواج فحسب ..
أما تيسير الزنا وتكثير أسبابه وتمهيد سبله وقبول نتائجه فهو ارتكاس إنسانى يصحب الأمم عندما تبدأ شمسها فى الغروب .
وتاريخ الأمة العربية والإسلامية معروف بأنه لم يعترف بالرهبانية كما لم يعترف بتبرج الجاهلية واستباحة الأعراض على نطاق ضيق أو واسع، فوصف الزنا العام بأنه زواج جماعى كلام قذر، وأى تمهيد لقبوله ـ كما ألمح الكاتب ـ مردود فى وجه صاحبه .
ثم إن العرب خلال هذا القرن قد حاقت بهم رزايا متلاحقة ثم استطاع عدوهم أن يضع أصابعه على مقاتلهم، وها هو يشد قبضته على خناقهم ليوردهم الحتوف .
وصيحة العلم والإيمان التى ارتفعت بيننا الآن هى أمل الحياة، فلحساب من تغرى أفواج الشباب بالانحلال والتردى، ويحددها كاتب مسلوخ عن الإيمان والعقل لتنسى ربها وشرفها ويومها وغدها !
نحن نعلم أن أوربا ارتقت فى العصور الأخيرة ارتقاءً بعيد المدى، لكنه من أكذب الكذب أن يجىء بعض الكتاب المصريين ليزعموا أن سبب ارتقائها هو انسلاخها عن مناهج الفطرة ومقتضيات الأدب .
إن أسباب النهوض شىء ومظاهر الانحلال شىء آخر، ولكى نعرف تفاهة كتابنا وانحدارهم الذهنى والنفسى ننقل إليك ما كتبه المؤرخ الإنجليزى الكبير “ أرنولد توينبى “ لتدرك منه حقيقة ما يتعرض له الكيان الأوربى من أخطار .
إن الأمراض التى يتعرض لها هذا الكيان المهتز هى هى “ الخصائص البراقة “ التى يريد نقلها إلى بلادنا كتاب تائهون مثل توفيق الحكيم وغيره من ذوى الأسماء والمناصب !
قال توينبى [ نشر المقال بالإنجليزية مجلة الإسلام الباكستانية، وترجمته إلى العربية مجلة رسالة الإسلام العراقية التى تصدر عن كلية أصول الدين ببغداد، والمقال طويل نقلنا منه نبذاً ] تحت عنوان درس من التاريخ للإنسان المعاصر:
“ لقد فشلت جميع جهودنا لحل مشكلاتنا بوسائل مادية بحتة، وأصبحت مشروعاتنا الجريئة موضع سخرية ! إننا ندعى أننا خطونا خطوات كبيرة فى استخدام الآلات، وتوفير الأيدى العاملة، ولكن إحدى النتائج الغريبة لهذا التقدم تحميل المرأة فوق طاقتها من العمل، وهذا ما لم نشهده من قبل، فالزوجات فى أمريكا لا يستطعن أن ينصرفن إلى أعمال البيت كما يجب ..
“ إن امرأة اليوم لها عملان: العمل الأول من حيث هى أم وزوجة، والثانى من حيث هى عاملة فى الإدارات والمصانع، وقد كانت المرأة الإنجليزية تقوم بهذا العمل الثنائى فلم نؤمل الخير من وراء عملها المرهق، إذ أثبت التاريخ أن عصور الانحطاط هى تلك العصور التى تركت فيها المرأة بيتها ..
“ فى القرن الخامس قبل الميلاد حين وصلت اليونان إلى أوج حضارتها كانت المرأة منصرفة إلى عملها فى البيت، وبعد مجىء الإسكندر الكبير وسقوط دولة اليونان كانت هناك حركة تسوية شبيهة بالحركة التى نشهدها اليوم ! ..
“ لقد نسوا الله (والكلام لتوينبى) حين وضعوا حلولاً لمعالجة الأمراض الاجتماعية انتهت بالأمم إلى علل مستعصية ومآس كبيرة ..
“ إن عصر الآلة أوجد لنا نقصاً لم يسبق له مثيل، نقصاً فى المساكن مثلاً، وخلق لنا فترات متناوبة من البطالة، ونقصاً فى الأيدى العاملة “ .
ويقول توينبى: “ لقد مشى الإنسان قديماً فى الطريق الذى مشى فيه اليوم، ووضع القواعد نفسها لتنظيم السير والمرور، والفرق الوحيد أن الأوائل استخدموا عربات الخيل بدل السيارات، وأن مخالفة تعليمات المرور لم تكن مروعة ومميتة كما هى اليوم ..
“ إن التقدم الفنى والصناعى ليس بحد ذاته دليل الحكمة أو ضمان البقاء، وإن الحضارات التى انبهرت وقنعت بمهارتها الآلية إنما كانت تخطو خطوة نحو الانتحار ! ..
“ إن أحد مصادر الخطر على عصرنا الحاضر هو أننا تربينا على عبادة الوطن وعبادة الراية وعبادة التاريخ الماضى ـ العنصرى ـ ويجب على الإنسان أن يعبد الله وحده وأن يتمسك بالقانون الإلهى فى تكامل الفرد والمجتمع، وإن فشلنا لمحتم عندما نحيد عنه “ هكذا يقول توينبى .
ومن عباراته فى هذا المقال: “ لقد أقنعتنى دراستى لإحدى وعشرين حضارة أن الثقافة الخلاقة هى فقط الثقافة الصحيحة، تلك التى تتمكن من حل المشكلات المستجدة فى الظروف المختلفة ..
“ إن التقدم العلمى الحديث قد حل مشكلاتنا الصناعية بجدارة ..
“ ولكن مشكلات العصر ليست من ذلك النوع الذى يحل فى المختبرات، إنها مشكلات معنوية، ولا علاقة للعلم بالقضايا المعنوية “ .
يعنى: أن الأمر فى هذه الأحوال لمنطق الإيمان، ولذلك يقول:
“ قد يبدو هذا غريباً ولكن المدنيات الكبيرة بلغت نضجها وضمنت تكاملها بالتغيير الروحى “ !
نقول: إن المؤرخ الأوربى الغيور على حضارته يلمح أسباب اعتلالها ويصف الدواء بحذق، أما الصحافى المصرى فهو يذهب إلى مسرح عابث فيصفه بإعجاب، ويتذكر أن مصر والهند كانتا قديماً تقيم التماثيل لأعضاء التناسل !!
أى فكر هذا ؟ وكيف تتداعى المعانى المثيرة على هذا النحو فى ذهن أديب لتنشرها صحيفة كبرى ؟
ومتى ؟ فى أيام استعداد العرب لجولة أخرى مع بنى إسرائيل يحررون بها أرضهم ويدركون ثأرهم !
ما ننتظر غير هذا من أقلام شبت على العبث وشاخت فيه .. بيد أننا نلفت الشباب المسلم إلى حقائق قد تغيب عن ذهنه فى غمرة الأحداث .
إن أعيننا ترمق قوماً يكرهون الإسلام من أعماق قلوبهم ويتحينون الفرص للتنفيس عن ضغنهم بوسيلة أو أخرى .
وهؤلاء يغضبون عندما ننتسب ـ مجرد انتساب ـ إلى الإسلام ولا يتحركون أية حركة إذا تعصب المتعصبون لأية نحلة أخرى على ظهر الأرض .
على الشباب المسلم أن يرمق هؤلاء بحذر وأن يدرك ما فى خباياهم من سواد ..
فى يوم ما جاء إلى صحن الأزهر وفد يجمع بين جان بول سارتر وسيمون دى بوفوار ولويس عوض وتوفيق الحكيم وآخرين لا أذكرهم ..
كان فيلسوف الوجودية وعشيقته مدعوين لزيارة القاهرة وإلقاء محاضرات بها ..
من الذى استقدم إلى عاصمة العروبة والإسلام هذا الفرنسى الكفور ليلقى فيها بذور انحلاله ؟!
لا يهم أن نعرف الأشخاص، وإنما المهم أن نحذر النيات المبيتة وأن نتقى التوجيهات المسمومة وأن نتبين الدائرة الواسعة التى يعمل فيها عدونا، لهدم عقائدنا ودك حصوننا فإن هؤلاء الأعداء كثيرون “ ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم “ .
حول خرافة تحديد النسل
قرأت مقالاً عن “ الانفجار السكانى وإمكانات التحكم “ نشرته صحيفة الأهرام يوم الجمعة 2 / 1 / 1970 ولا أكون مغالياً إذا وصفت هذا المقال بأنه صائب الفكرة عميق النظرة مملوء بالحقائق الجديرة بالاحترام .
ولقد لفت عدداً من الدعاة المسلمين وعلماء الدين إلى هذا المقال لأنه يصور فى نظرى عودة أفكار سبق أن كتبتها ووقفت عندها، ورأى جمهور المسلمين أنها التعبير الحق عن أحكام دينهم ونهج حياتهم، وإن كان البعض قد مارى فيها مراء يعلم الله بواعثه !
والكاتب بعد مقدمات جيدة حول مشكلة النسل يقول:
إن تفسير الزيادة السكانية بغير التخلف الاقتصادى، أو رد هذه الزيادة إلى عوامل أخرى .
مثل غلبة الغريزة الجنسية،
أو وجود الأديان المحبذة للتناسل،
أو عدم المبالاة بالرقى ..
يدخل فى باب التضليل العلمى !
وقد استخلص هذه النتيجة الصادقة من جملة ملاحظات علمية واجتماعية جديرة بالتأييد الحار .
ويعجبنى أنه استهجن صيحات التشاؤم المفتعلة التى تخصص فى إرسالها بين الحين والحين نفر من مقلدى الأساليب الأمريكانية فى الإحصاء الجزئى والحكم العام، وهى أساليب تخدم سياسة معينة من البيانات والبلاغات التى يتبرع بها نفر من نجوم الرأى الأمريكيين يزعمون فيها أن العالم قد بلغ فى مسيرته نحو كارثة “ اللاعودة “ .
بسبب الزيادة المفرطة فى سكانه، تلك الزيادة التى نشأت من أن أقطار العالم الثالث ـ الذى يضم عشرات من الدول النامية أو بتعبير آخر عشرات من الدول المتخلفة ـ لم تكبح جماح شهواتها الجنسية، ولم تستجب لدعوة المندوب الأمريكى إلى “ تخطيط “ أو تحديد النسل الذى رأى سيادته أنه الطريق الوحيد لحسم المشكلة السكانية ..
بل لم يستح نفر من قادة الرأى فى الولايات المتحدة أن ينادوا جهراً بضرورة استخدام القسر فى الحد من هذا التفوق العددى للمراتب السفلى من البشر(!) بالقدر الذى يمنع دفع المراتب الأعلى إلى الخلف!
ولما كانت نسبة الأولاد تكاد تكون ثابتة من عشرات السنين فإن الزيادة المحذورة نشأت للأسف من قلة الوفيات بسبب ارتفاع المستوى الصحى فى أرجاء العالم .
والحل ؟
إنه عند أرباب الثقافة الغربية الرفيعة عدم مقاومة العلل بين شعوب لا تجد الأكل، وترك الأمراض تفتك بهذه الأجيال الوافدة فإن إقحام طوفان من الأطفال الجياع على اقتصاد مضطرب يهدد بكارثة !
لكن كيف يوصف هذا التصرف ؟
إنه تصرف “ إنسانى “ عادى (!) لأنه يساعد الطبيعة على انتخاب الأصلح وإبقاء الأقوى !
بل إن هذا التصرف يتفق مع أرقى ثمرات الفكر الإنسانى، ألم يقل أفلاطون فى جمهوريته الفاضلة أنه يجب قتل كل طفل يزيد عن العدد الضرورى ؟ ونحن قد وصلنا بالفعل إلى ما يزيد عن العدد الضرورى .
ويستتبع الفكر الغربى أحكامه على الأمور، فيقول الدكتور “ هوايت ستيفنز “ أحد خبراء علم الاجتماع: إن يوم القيامة سيوافق 13 / 11 / 2026 لأن المجاعة العالمية فى هذا اليوم ستقضى على الجميع، هكذا يقول الدكتور الألمعى بعد حساب وفق قواعد علم الاجتماع لا قواعد علم التنجيم !
وبناء على هذا الهوس الإحصائى يدعو الأمريكيون إلى التعقيم الإجبارى وإلى فرض نظام صارم لتحديد النسل، وإلى دعوة الأمم المتحدة إلى إجراء ما كى ينخفض عدد الأولاد بين العرب والزنوج والهنود وأشباههم وهم سواد العالم الثالث .
ويلاحظ الأستاذ كمال السيد ـ كاتب المقال ـ أموراً ذات بال منها أن الولايات المتحدة تنفق 70 ألف مليون دولار على معدات القتال وأن شركاتها المحتكرة تعامل شعوب العالم الثالث بنهم مستغرب لا مكان معه للرحمة بهؤلاء الجياع المساكين .
ويقول “ وهناك صيغة شائعة فى أمريكا الجنوبية فحواها “:
أن خمسة من سكانها يموتون جوعاً كل دقيقة فى حين أن الشركات الأمريكية العاملة بها تكسب خمسة آلاف دولار كل دقيقة أى ألف دولار من كل ميت .. !
ومع شعورنا بأن الكاتب يسارى النزعة إلا أننا نعرف أن المساعدات الأمريكية مغشوشة النية سيئة الهدف فقد توزع على الأطفال مقادير من الألبان والجبن، ولكنها تفرض على بيئتهم قيود الفقر الأبدى إلى هذا النوع من المساعدات .
وبرامج النقطة الرابعة توزع المواد الاستهلاكية وحسب على الأمم المتخلفة وتمتنع امتناعاً غريباً عن تصنيع البيئة وإعانتها على أن تخدم نفسها بنفسها، وتستغل مواردها الوطنية بقدراتها الخاصة !
كأن شعوب هذا العالم الثالث ـ كما تسمى ـ ينبغى أن تظل مشلولة المواهب مكشوفة العجز، لا تستطيع الانتفاع بما لديها من خبرات .
وعليها ـ بعد ـ أن تسمع الحكم بأن التعقيم الإجبارى واجب، وأن تحديد النسل فريضة وإلا قامت القيامة بعد كذا من السنين !
ويتلقى هذا الكلام بعض قصار العقل فيطيرون به هنا وهناك ينذروننا بالويل والثبور وعظائم الأمور فإذا حاولنا التفاهم معهم قالوا: إنكم رجعيون تائهون عن مقررات علم الاجتماع، وأخطار يوم القيامة الذى سيجىء حتماً من زيادة السكان !
ولنتناول الآن صميم المشكلة . هل حقاً أن بلاد العالم الثالث لا تكفى حاجات أهلها وبالتالى لا تتسع لمزيد من الأفواه التى تطلب القوت والأجساد التى تطلب الكسوة ؟
تلك هى الأكذوبة الكبرى التى يضخم الاستعمار صداها ويزعج الدنيا طنينها !
إن أقطار العالم الثالث مشحونة بخيرات تكفى أضعاف سكانه، بيد أن هذه الخيرات تتطلب العقول البصيرة والأيدى القديرة .
ولو رزقت هذه الأقطار المنكودة إنسانية نزيهة تستهدف إيقاظ الملكات الغافية والحواس المخدرة، وتطارد الخمول والوهن وتجند القدرات والخيرات، وتمنع التظالم والترف، وتضرب سياجاً منيعاً حول مصالح الشعوب يرد عنها غوائل الاستعمار بجميع أنواعه لكانت هذه الشعوب تحيا فى رغد من العيش تحسدها أقطار الغرب عليه ..
ليست المشكلة اقتصادية كما يزعم الخبثاء من المستعمرين، ومقلدوهم من الصياحين الذين يهرفون بما لا يعرفون .
الفقر فقر أخلاق ومواهب لا فقر أرزاق وإمكانيات !
ـ لماذا يكون المولود القادم أكالاً لا شغالاً، مستهلكاً لا منتجاً، عبئاً على الحياة لا عوناً على الحياة ؟
ـ لماذا تهون الإنسانية فى شأن هذه الأجيال الوافدة فيكون وجوده مبعث قلق لا مثال استبشار .
إن الجهود المادية والمعنوية التى يبذلها المتشائمون لقتل هذه الأنفس أو للحيلولة دون وجودها لو بذلت فى تصحيح الأخطاء الاجتماعية وتقويم الانحرافات العقلية لكانت أقرب إلى الرشد وأدنى إلى الغاية !
ولكن الاستعمار الأنانى الشره يريد التهام كل شىء لنفسه وحده، بل الأنكى من ذلك أنه يعترض طريق كل نهضة تصحح الأوضاع كى تبقى الأمور كما هى ويبقى منطقه السقيم فى علاج الأمور .
على أن تخلف العالم الثالث ليس علة أزلية ولا أبدية فقد كان الأوربيون والأمريكيون أسوأ حالاً منذ قرون تعد على الأصابع، وكانت الخرافة تفتك بعقولهم فتك الأدران والعلل بأجسامهم، فإذا صعدوا فى سلم الترقى وهبط غيرهم بعد رفعة أو بدأ لأول مرة يخطو على درب المدنية فلا معنى للاحتيال عليه والتشفى منه .
“ كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم “
والأمر لا يستدعى أكثر من تغيير الظروف المؤثرة فى أحوال المجتمعات فهناك مكان ينبت العز ـ كما يقول المتنبى ـ ومكان ينبت الذل . وهناك آخر يوقظ العقل أو ينيمه .
والمعتوهون الذين يصرخون جزعين: قفوا نسل الأرانب حتى لا تقول الساعة، أو حتى ترقى الأمة .. لا يعلمون أن العالم الثالث لن يرقى ولو فقد تسعة أعشار عدده ما بقيت ظروف النفسية والفكرية جامدة على أوضاعها الحالية .
ونعود مع كاتب الأهرام لنبصر الواقع حيث يقول:
“ إن موارد العالم خصوصاً موارد البلاد المتخلفة ما زالت تفوق كثيراً زيادة أعداد السكان، فالفائض الاقتصادى المحتمل يمكن تحويله إلى ضروب من النشاط المنتج بدلاً من أن يذهب إلى جيوب المرابين والوسطاء وملاك الأرض أو يتبدد فى وجوه السرف المختلفة ..
“ وهذا الفائض هو ما يعرفه الاقتصاديون بأنه الفرق بين الإنتاج فى ظروفه الطبيعية وبين ما يعد استهلاكاً ضرورياً للجماعة المنتجة، ويقدر هذا الفرق بنحو 20 % من الإنتاج القومى، وهو يكفل عند استثماره زيادة سنوية فى الدخل تبلغ 8 %، وهذه الزيادة تكفى بل تفيض عن متطلبات الزيادة السكانية “ .
الفقر الواقع أو المتوقع لا يعود إذن إلى علل طبيعية بل إلى سوء تصرف واضطراب إدارة، أو كما يقول الاقتصادى الأمريكى المشهور “ بول باران “: “ إننا يجب أن ندق ناقوس الخطر لا لأن القوانين الأبدية فى الطبيعة قد جعلت من المستحيل إطعام سكان الأرض بل لأن النظام الاقتصادى الاستعمارى يحكم على جموع كثيفة من الناس ـ لم يسمع بضخامتها من قبل ـ أن تعيش فى كنف الفاقة والتدهور والموت قبل الأوان “ !
ثم أنهى الكاتب كلمته قائلاً: “ إنه لا حل لمشكلات التخلف ومن بينها ضغط السكان على الموارد إلا بتنمية بلدان العالم الثالث لثرواتها، ومضاعفة اعتمادها على نفسها .. ثم على القدر الميسور من المعونات الأجنبية المنزهة “.
لقد قررت هذه الأحكام تقريباً فى كتابى “ من هنا نعلم “ المطبوع من ربع قرن، ولذلك فقد انشرح صدرى عندما قرأت هذه الأيام ما يزيد الحق وضوحاً ..
وما يبدد ضباباً كثيراً نشره فى أفق الحياة العامة أقوام قصار الباع طوال الألسنة، وإنى ـ إذ أؤكد المعانى
الآنفة ـ أوجه كلمة إلى نفر من المتحدثين باسم الإسلام أساءوا إلى حقائقه مراراً وهزموه فى مواطن كثيرة ..
إن الإسلام ليس هو بالدين المحلى لأهل الوجهين البحرى والقبلى، إنه دين القارات الخمس ! وداره الرحبة الخصبة تمزج بين أجناس كل هذه القارات فى أخوة جامعة لا تعرف الحدود الضيقة المفتعلة التى صنعها الاستعمار فكيف يعالجون مشكلة السكان وهم لا يدركون هذا الأساس المبين ؟
ثم إن هذا الدين يتعرض لحرب إبادة فى هذه الأيام من تحالف الصهيونية والاستعمار، فكيف تصدر الأوامر من رؤساء الأديان بتكثير الأتباع، ومباركة النسل، ويفتون هم بالتعقيم والتقليل ؟
إننى لا أدرى علة هذا الزيع ؟ أهى قلة العلم أم ليونة الضمير ؟
وتحذير آخر إلى هؤلاء: إن أحدهم يقع على الكلمة منسوبة إلى عمرو بن العاص أو غيره من الرجال فيطير بها غير آبه بقيمة سندها ولا مكترث بأنها ملتقطة من كتب تجمع الجد والهزل والخطأ والصواب ..
ولو فرضنا جدلاً نسبتها إلى عمرو، فما كلام عمرو بالنسبة إلى كلام الله ورسوله ؟
أرجو بعد كلمة الأهرام التى لخصتها فى مقالى أن تنتهى هذه المأساة ..
محنة الضمير الدينى هناك !
هذه سياحة سريعة داخل أقطار الفكر الدينى الغربى . ستفجؤنا أحكام ينقصها السداد، ومؤامرات يحبكها القدر، وضغائن لا تزال عميقة على طول العهد وامتداد الزمان !
ومن حقنا نحن المسلمين ـ وقد لفحتنا حرب بقاء أو فناء ـ أن ندرس الجبهة التى مسنا عدوانها وأن نزن ببصر حديد طبيعة العواطف الدينية التى تكمن أو تبرز خلف أحداث لا تبدو لها نهاية قريبة !
ولنبدأ بمقال نشرته مجلة كاثوليكية تطوعت بإسداء نصائحها الغالية لإسرائيل، وليست هذه النصائح الغالية أن يعترف اليهود بحق العرب وأن يعودوا من حيث جاءوا تاركين البلاد لأصحابها .. لا !
إن الضمير الدينى عند الصحيفة المتدينة جعلها تسدى نصحاً من لون آخر، لقد قالت لليهود:
“ إننا احتللنا فلسطين قبلكم، وبقينا فيها سنين عدداً، ثم استطاع المسلمون إخراجنا وتهديم المملكة التى أقمناها ببيت المقدس، وذلك لأغلاط ارتكبناها، وها نحن أولاء نشرح لكم تلك الأغلاط القديمة حتى لا تقعوا فيها
مثلنا ! ..
“ استفيدوا من التجربة الفاشلة كى تبقى لكم فلسطين أبداً ويشرد سكانها الأصلاء فلا يخامرهم أمل العودة !”
وشرعت الصحيفة التقية تشرح: لماذا انهزم الصليبيون الأقدمون وتوصى حكام “ إسرائيل “ بأمور ذات بال، وتحرضهم فى نذالة نادرة أن يوسعوا الرقعة التى احتلوها، وأن يستقدموا أفواجاً أكثر من يهود العالم، وأن يحكموا خطتهم فى ضرب العرب ومحو قراهم وإبادة خضرائهم، وبذلك يستقر ملك إسرائيل ويندحر الإسلام والمسلمون .
وهاك أيها القارئ عبارات المقال الذى نشرته مجلة “ تايلت “ الإنجليزية الكاثوليكية للكاتب (ف . س اندرسون) فى العدد الصادر فى 26 / 10 / 1957 .
يقول الكاتب المذكور “ إن نظرة واحدة إلى خارطة حدود إسرائيل الحالية تعيد إلى الذاكرة للفور أوجه الشبه القوية بين تلك الحدود وحدود مملكة الصليبيين التى قامت عقب احتلال القدس 1099 م ..
“ ونظراً إلى الأعمال العدائية بين إسرائيل وجيرانها نرى من المفيد أن نقارن بين الحالة العسكرية الراهنة وبين مثيلاتها فى أيام الصليبيين، ولعلنا نرى ما إذا كان سيتاح لإسرائيل خط أفضل مما كان للصليبيين القدامى أم سيلقون مصيرهم ؟ ..
“ إن مملكة الصليبيين لم يكتب لها البقاء إلا أمداً قصيراً وقد مكثت ثمانية وثمانين عاماً فقط ثم استرد المسلمون القدس ! ..
“ ومع أن المسيحيين نجحوا فى الاحتفاظ بقطاع صغير شرقى البحر المتوسط مدة مائة عام أخرى إلا أنهم فشلوا فى الدفاع عن عكا أخيراً وأخذوا يغادرون هذه البلاد تحت جنح الظلام عائدين إلى أوروبا ..
“ إن سقوط تلك المملكة كان يعود إلى بضع نقائص ظاهرة فإذا أريد لإسرائيل أن تعيش مدة أطول فما عليها إلا أن تحتاط ضد هذه النقائص ..
“ لقد دخل الصليبيون فلسطين فى ظروف ملائمة جداً لهم، تميزت بوقوع الفرقة بين المسلمين، وعجزهم عن إقامة جبهة مقاومة موحدة ! ..
“ وهكذا استطاع المهاجمون أن يهزموا المسلمين بسهولة، دويلة بعد دويلة، وأن يمكنوا لأنفسهم فى الأقطار التى فتحوها غير أنه لم يمض وقت طويل حتى ظهر زعيم عسكرى مسلم استطاع أن يوحد المسلمين أمام خصومهم بسرعة، ثم حشد قواهم فى معركة حطين وأصاب الصليبيين بهزيمة ساحقة تقرر على اثرها مصير القدس، بل انحسر بعدها المد الصليبى جملة، ودخل صلاح الدين الأيوبى مدينة القدس التى عجز أعداؤه عن استبقائها أو استعادتها فتركوها يائسين “ .
يقول الكاتب الكاثوليكى: “ كان الصليبيون يستطيعون البقاء مدة أطول فى تلك البلاد لو لم يعانوا نقصاً شديداً متواصلاً فى الرجال، ولو أنهم وسعوا حدود مملكتهم وفق ما تمليه الضرورات العسكرية الماسة، لماذا لم تحتلوا دمشق ؟ لقد كان احتلال دمشق مفتاح مشكلتهم وضمان بقائهم ! وسيظل عدم تقديرهم لهذه الحقيقة
لغزاً لنا ؟ ..
“ نعم إنهم بذلوا جهوداً واهية لاحتلال تلك المدينة بيد أن محاولاتهم كانت من الضعف بحيث كتب عليها بالفشل “ .
وبدلاً من أن يتابعوا جهودهم لاحتلال دمشق اتجهوا جنوباً واحتلوا العقبة وشرعوا يوجهون حملاتهم إلى مصر، مع أن الإشراف على النيل هدف عسير التحقيق !!
وعندما أصبحت للمسلمين اليد العليا فى ذلك العهد استطاعوا إجلاء الصليبيين عن العقبة وعن سائر حصونهم فى الجنوب، إلا أن الكارثة الكبرى جاءت من الشرق، فإن معركة حطين وقعت بالقرب من طبرية عند الزاوية الشمالية الشرقية لمملكة الصليبيين ..
ولما كانت دمشق والأرض الممتدة بين الأردن والصحراء السورية ملكاً للمسلمين فقد استطاعوا أن يتحركوا بحرية على ثلاث جبهات حول المملكة الصليبية التى أضحت شبه محصورة .. وذلك ما أعجزها عن المقاومة !
يقول الكاتب الحزين لما أصاب أسلافه: “ ولو أن الصليبيين اندفعوا قدماً وقطعوا الممر الذى يؤدى إلى الشرق من دمشق لاستطاعوا منع مرور الجيوش والقوات بين سورية ومصر، ولكانت حدودهم الشرقية المستندة إلى الصحراء أكثر أماناً، ولأمكنهم الانتفاع من أساطيلهم البحرية “ .
ثم يستأنف الكاتب الحاقد كلامه فيقول: “ لقد أقيمت إسرائيل فى وقت كان العرب فى الدول المجاورة عاجزين عن القيام بعمل موحد، ثم بقدر كبير من الجهد والشجاعة استطاع اليهود أن يبلغوا حدودهم الحالية، لكن هذه الحدود تطابق حدود المملكة القديمة للصليبيين، وقد عرفنا مآلها فما العمل ؟ “ .
يقول الكاتب محرضاً اليهود على مزيد من العدوان: “ مرة أخرى ما لم تتحرك إسرائيل فى الاندفاع نحو دمشق فستبقى للعرب تلك الحرية الخطرة فى تنقيل قواهم حول ثلاث جهات من إسرائيل، وفى ذلك ما فيه “ .
ويستطرد: “ قد يكون من العسير سياسياً أن تتحرك إسرائيل لغزو سوريا واحتلال دمشق لكن الاتجاهات السياسية السورية قد تساعد على تسويغ ذلك، وإن مثل هذه النزهة الحربية (!) ستنطوى على فائدة دائمة لإسرائيل أعظم من الفائدة التى تجنيها من التغلغل فى صحراء سيناء “ .
ويختم الكاتب “ نصيحته “ لأصدقائه اليهود فيقول: “ إن إسرائيل لن تنقصها القوى البشرية فلديها جيش كبير بالإضافة إلى هجرة منظمة من جميع أنحاء العالم تمدها بكل ما تفتقر إليه من طاقات ويجب أن تظل قادرة على وضع جيش قوى فى الميدان يكون دائماً على أهبة الاستعداد “ .
لو أن كاتب هذا الكلام يهودى قح ما استغرب المرء حرفاً منه !
إن وجه العجب فى هذا التوجيه المشوب بالود لإسرائيل والبغض للعرب والمسلمين أن الكاتب مسيحى ينشر أفكاره فى مجلة كاثوليكية .
وهو يفكر ويقارن ويقترح كأن القضاء على العروبة والإسلام جزء من عقله الباطن والظاهر، ثم هو لا يشعر بذرة من حياء فى إعلان سخائه . إن مشاعر البغضاء المضطرمة فى جوفه تغريه بالاسترسال والمجازفة دون أن تهيب، ويحزننا أن الكلام ليس إبداء لوجهة نظر خاصة، فإن الكاثوليك فى أرجاء الأرض انتهزوا فرصة الضعف التى يمر بها الإسلام كيما يحولوها إلى هزيمة طاحنة وفناء أخير .
والروح الذى أملى بكتابة هذا المقال هو نفسه الروح الذى كمن فى مقررات المجمع المسكونى الذى عقده بابا روما وصالح فيه اليهود، وأمر الكنائس بعده ألا تلعنهم فى صلواتها .
وهو الروح الذى جعل “ البابا بولس “ يزور القدس ويدخل الأرض المحتلة ويتعامل مع سلطات إسرائيل، وهو تصرف لم يفعله أى بابا من مئات السنين !
وللقارئ المسلم أن يسأل: أذلك موقف الكاثوليك وحدهم ! أم أن أصابع الاستعمار الغربى قد أفسدت التفكير الدينى لدى كثير من المفكرين الغربيين .
قرأت كتاباً وجيزاً للمؤلف المصرى المنصف الدكتور وليم سليمان وردت به هذه الحقائق نذكرها مع تعليق سريع لا بد من إيراده . قال: “ فى ديسمبر سنة 1961 عقد مجلس الكنائس العالمى مؤتمره الثالث فى نيودلهى، وأصدر قراراً حدد فيه موقفه من اليهود جاء فيه: لا بد من تهيئة التعليم الدينى المسيحى وتقريبه للأذهان على وجه يبرئ اليهود من تبعات الأحداث التاريخية التى أدت لصلب المسيح إذ إن هذه التبعات تقع على
عاتق الإنسانية كلها (!) ..
“ وقد صرح الراعى البروتستانتى الأمريكى ل . ج . نبيت الأستاذ بمعهد اللاهوت بنيويورك قائلاً: إن الكنائس مسئولة بوجه خاص عن العداء للسامية فقد ظلت تعاليم المسيحية موجهة عدة قرون ضد اليهود وهو عداء يعد من مخلفات الأحقاد الدينية القديمة “ .
نقول نحن: وما ذنب المسلمين فى هذا ؟ وهل عرب فلسطين يدفعون ثمن هذا الخطأ الكنسى من وطنهم وكرامتهم وحاضرهم ومستقبلهم ؟
ذلك ما يريده مجلس الكنائس العالمى الموقر ! فإن هذا المجلس عقد مؤتمراً فى بيروت وزار أعضاؤه مخيمات اللاجئين ثم قرر أنه ليس هناك حل دائم لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين إلى أن يبت فى القضية الخاصة بالخلاف بين العرب وإسرائيل .
“ وقال المؤتمر “ الطيب القلب “: إن ذلك سيشمل خطة عامة لتعويض اللاجئين سواء عادوا إلى وطنهم أم لم يعودوا وإن هناك صدقات سوف يأخذها أصحاب الأرض والمطرودين ! ..
“ وفى سنة 1964 عقد مجلس الكنائس العالمى فصله الدراسى الثالث عشر “ بجنيف “ وافتتح الجلسة عميد الكلية اللاهوتية بجامعتها فقال لا فض فوه: حين تثور مشكلة اليهود فإن الكنيسة لا تستطيع أن تتجاهل ثقل مسئوليتها العظيمة عن آلامهم وضياعهم طول تاريخهم ولذلك فإن أول ما يصدر عنها نحوهم هو طلب المغفرة ..
“ يجب على الكنيسة أن تطلب المغفرة من اليهود !! بهذه العبارة الضارعة الذليلة يفتتح مجلس الكنائس العالمى الجلسة التى يحدد فيها موقف من دولة إسرائيل .. “ .
ونتساءل نحن مرة أخرى: أإذا أجرم غيرنا وجب علينا نحن القصاص ؟ “ ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً “ [ هود: 19 ] .
لقد فكرت فى هذا الأمر ملياً ! إن حقنا ليس غامضاً حتى يلتمس عذر لمستبيحه !
هل المال اليهودى من وراء هذه الذمم الخربة مهما كانت مناصبها الدينية ؟ ربما .
أم أن الضغائن العمياء على الإسلام وأمته سيرت الخطب والمقالات فى هذا المجال الفوضوى المكابر الوقح ؟ ربما .
لكن الدكتور وليم سليمان فى كتابه “ الكنيسة المصرية تواجه الاستعمار والصهيونية “ يذكر لنا كلاماً آخر يستحق الدرس والتأمل .
إنه ينقل عن مؤرخ الإرساليات “ ستيفن نيل “ هذه العبارات من تقرير له: “ لقد تيقن الرجل الغربى أن سجله الاستعمارى حافل بالعار وأصبح أقل ثقة مما كان فى وحدانية الإنجيل المسيحى ونهائيته، وفى حقه ـ أى حق الرجل الغربى ـ أن يفرض على ورثة الأديان العظيمة الأخرى شيئاً قد يثبت فى النهاية أنه ليس أكثر من خرافة غريبة a western myth ..
“ وبدأ فى أوساط رجال اللاهوت هجوم صريح على الألوهية بكل مظاهرها فى المسيحية ! وانتشر تيار فكرى يجعل نقطة بدايته “ موت الإله “ (!) وينادى بمسيحية لا دين فيها (!) وينادى بهذه الأفكار “ بنهوفر ويلتمان “ والأسقف الإنجليزى “ جون روبنسون “ ..
[ انظر على سبيل المثال كتاب روبنسون Honest To God الذى طبع منه فى مارس سنة 1962 أربع طبعات وفى أبريل سنة 1962 طبعتان وفى كل من مايو ويوليو وسبتمبر من نفس العام طبعة وكانت الطبعة العاشرة فى سبتمبر سنة 1964، وقارب عدد النسخ المطبوعة مليون نسخة، وعلقت عليه مجلة “ تايم “ فى 25 ديسمبر سنة 1964 ونيوزويك فى أبريل سنة 1966 ومجلات أمريكية أخرى كثيرة !! ]
“ ويخيل للمراقب من بعيد أن القوم يثورون على الإله لأنه تخلى عنهم وساعد أعداءهم “ .
ويستطرد الدكتور وليم سليمان فيقول عن الغربيين: “ الدين فى نظرهم لم تعد له قيمة فى ذاته، إنه شىء يمكن الاستفادة منه لتحقيق الأهداف الدنيوية التى ينشدها الغرب فى شتى أنحاء العالم “ .
وخلاصة هذا الكلام أن المسيحية انتحرت فى أوربا، فأى تدين هذا الذى ينخلع ابتداء من الإيمان بالحى القيوم، ويعتبر التعامل معه منتهياً لأنه تلاشى ومات .. !!
إن ذلك هو التفسير الحقيقى لانضواء رجال الكهنوت تحت راية الاستعمار، وركضهم الخسيس فى خدمة قضاياه ..
وعندما تتسابق شتى الكنائس لإرضاء إسرائيل وتعلق اليهود فهل يدل ذلك إلا على شىء واحد وهو أن رجال الدين باعوا ضمائرهم للشيطان .. ؟
إن العرب يتعرضون لإبادة عامة، والتفجيرات تنسف منازلهم وقد محيت قرى بأكملها من الوجود، والدفاع عن النفس يوصف بأنه إجرام وتمرد .
ووسط هذا الحريق المستعر يبارك ساسة إسرائيل، ويقول رجال الدين والدنيا: خلقت إسرائيل لتبقى ! فأين منطق الإيمان بالله واليوم الآخر فى تلك المداهنة وهذا الاستخذاء . ظاهر أن القوم قد تحولوا إلى سماسرة وعملاء للاستعمار العالمى .
واعتقادى أن هذه المحنة الرهيبة ستوقظ الإسلام النائم وإن كان غيرى يرى أن المادية المتربصة هى الكاسبة من خيانة الغرب لدينه ومثله .
ولا شك أن المستقبل محفوف بأخطار شداد، بيد أننا لن نفقد توازننا ولا ثقتنا فى أصالتنا الدينية ولا آمالنا فى جنب الله .
واعتقادى كذلك أن الاستعمار سيفشل فى محاولاته الدائبة لجر الكنائس الشرقية إلى جانبه وإشراكها فى مآسيه، وإذا كان قد ضلل البعض فإن الجمهرة الغالبة ستبقى على وفائها لتعاليمها ومواطنيها وتاريخها الصبور .
هذه المقررات لا نريد أن تنسى
أرسلت بصرى وراء طلاب بعض المدارس وهم منصرفون إلى بيوتهم . كان الصخب شديداً، والتدافع ظاهراً، والتصايح بالكلمات النابية مسموعاً ! لم تكن بالشارع أثارة من علم أو دلالة على جد ورشد !
ولست أستكثر على الصبية فرح الانطلاق والأوبة إلى الأصل، ولست أجهل طبيعة المرح فى مقتبل العمل وخفة التكاليف !
ولكنى لم أسترح للطيش البادى والمزح السخيف والألفاظ الماجنة إذا كنا نريد إعداد جيل صاعد فالأمر يتطلب سيرة وسريرة غير ما أرى .
لقد عرفت كثيراً من البرامج العلمية التى تدرس، ولا أزعم أنها قليلة، بل أشعر أن استيعابها أساس صالح لخلق شعب مثقف .
واطلعت على أغلب المقررات الدينية، وقد تكون أقل مما يجب درسه . ومع ذلك فهى لو تم فقهها وتحصيلها أساس حسن لتكوين جيل مؤمن مهذب ..
إذن من أين تجىء الشكوى ؟ وما مصدر ما ذكرت من معايب ؟
إن المادة العلمية شىء وأسلوب تقديمها وتلقيها شىء آخر .
إن هذا الأسلوب يرتبط برسالة الأمة، وضرورة تربية النشء على اعتناقها واحترامها .
ومن هنا فالتعليم المنفصل عن التربية جهد ضائع أو جهد تافه النتائج ..
وأذكر أن الدكتور “ حلمى مراد “ وزير التربية الأسبق كان قد ألف لجنة لعلاج هذا الوضع .
وأشهد أن الرجل كان حاد البصيرة عميق الإخلاص، راغباً فى إنشاء جيل أفضل وأقدر على مواجهة غده الثقيل .
ولقد انقسمت اللجنة المؤلفة إلى لجان شتى بذل أعضاؤها جهودهم فى أداء الواجبات المنوطة بهم .
[ ألف الدكتور “ حلمى مراد “ وزير التربية والتعليم الأسبق لجنة لدعم النواحى الدينية فى التعليم العام، وإصلاح مقرراته بما يعين على إنشاء جيل مسلم، وقد أخرج الدكتور من الوزارة (!!) بعد أن أدت اللجنة واجبها، فاستنقذنا هذه المقررات لإحدى الشعب التى اختصت بالجو المدرسى ]
واخترت لنفسى أن أكون فى اللجنة المعنية “ بالجو الذى يسود المدرسة “ لأن التربية المدرسية فى نظرى هى الدعامة الأولى للإفادة من العلم المبذول كما أنها الدعامة الأولى لإمداد أمتنا برجال ذوى معادن صلبة ومواهب راجحة وفضائل بارزة .
وقد انتهت اللجنة الموقرة إلى توصيات كثيرة، أستبيح لنفسى ذكرها آملاً أن ينفع الله بها، وأن تأخذ طريقها إلى الهواء والضياء !!
قالت اللجنة: “ لا نستطيع أن نربى الطالب تربية دينية كاملة إلا إذا هيأنا له جواً روحياً فى مدرسته وفى بيته ليكون هذا المناخ الدينى من وسائل التعلق بهذه القيم والانتفاع بها، وبهذا تتلاقى المعارف الدينية التى تلقاها من مدرسه ومن كتابه بالجو المصبوغ بالصبغة الدينية النقية فتتحول المعرفة النظرية إلى سلوك دينى كما تتحول البذور فى الجو الملائم إلى زهور وثمر “ .
وبذلك يمكن تثبيت العقائد وإلف العبادات وتزكية الأخلاق وتكوين جيل نزاع إلى الحق والخير متعاون على البر والتقوى .
ويتهيأ هذا الجو الدينى المدرسى المنشود بما يأتى:
(1) يبدأ اليوم الدراسى بتلاوة من آيات الذكر الحكيم مجودة أو مرتلة لتشيع فى الجو المدرسى أنسام الطهر الروحى .
(2) تدور كلمة الصباح بالإذاعة بين ثلاث دقائق وخمس دقائق، حول ما سمعه التلاميذ من الآيات المقروءة، وما تفرضه المناسبات الدينية، وما ترشد إليه من فضائل سامية، فى كلمات موجزة موحية .
(3) أن تكون دروس التربية الدينية فى الحصص الثلاث الأولى ؛ ليشعر الطلاب بما للدين من قيمة عليا بين المواد الدراسية، وليكون التلميذ فى ذروة النشاط الفكرى، فيعى ما يسمع، ويقر فى نفسه .
(4) أن تذاع الأناشيد الدينية أو قصة دينية قصيرة فى الفسحة الأولى من اليوم الدراسى .
(5) أن ينظم الجدول المدرسى فيتلاقى ابتداء فسحة الظهيرة مع حلول وقت الظهر وينادى للصلاة ثم يدعى إليها بكلمات تحمس الطلاب لأداء الفريضة .
(6) أن يخرج مدرسو اللغة العربية والتربية الدينية ومعهم إدارة المدرسة ومن شاء من المدرسين الآخرين أمام التلامي، ثم يتجهوا إلى المصلى ليكون هذا العمل الجماعى إشعاراً ملموساً بإقامة الشعيرة فى وقتها .
(7) أن يكون لكل مدرسة مجموعة من الرواد الدينيين يتناسب مع عدد الفصول والطلاب، وهم الراعون لتلاميذهم يوجهونهم إلى مرشدهم ويؤمونهم فى صلاتهم وينظمون إقامة الشعيرة بجدول مخطط له حتى يؤدى الصلاة أكبر عدد من الطلاب، وعليهم أيضاً أن يعدوا تقريراً شهرياً عن سلوك كل تلميذ من تلاميذهم ويرسل التقرير إلى ولى أمره ليحس البيت برعاية المدرسة للدين فيعينها عليها .
(8) أن يخصص يومان فى الأسبوع من فسحة الظهر تدور فيها مناقشات دينية مطبوعة متصلة بحياة التلاميذ ولا تستغرق من وقت الفسحة زمناً طويلاً حتى لا يضيق التلاميذ بها . وفى الأيام الأخرى تذاع مسرحيات دينية قصيرة تتصل بمنهجهم الدراسى ما أمكن ذلك .
(9) أن تتجدد جماعات النشاط الدينى فتكون هناك جماعة للمسرح الإسلامى وغيرها للصحافة الإسلامية وأخرى للتاريخ الإسلامى .. بجانب الجماعات التقليدية كجماعة البر والإمامة وغيرهما .
(10) أن يكون العاملون فى الميدان المدرسى قدوة حسنة تتسم بالإيمان والسلوك الحميد الذى ينعكس على تلاميذهم إيماناً وإخلاصاً وسلوكاً قويماً .
(11) أن نجعل من بعض أيام الجمعة فرصة لالتقاء التلاميذ بأساتذتهم وأولياء أمورهم فى مصلى المدرسة، حيث تلقى عليهم دروس دينية حية تناقش أفكارهم على سعة، لنتيح اشتراك أولياء الأمور فى هذه المناقشة، مما يساعد على نقاء الجو المنزلى، ويوثق الروابط بين البيت والمدرسة .
(12) أن تدور أسئلة التطبيق الدينى الأسبوعى والاختبارات الشهرية والفترية حول الموضوعات التى تثار فى الندوات واللقاءات الدينية لنشد انتباه التلاميذ إليها .
(13) محاسبة المدرسين الذين يستهينون بدروس التربية الدينية فيستبدلون بها حصص المواد الأخرى .
(14) تقسيم طلاب المدرسة إلى أسر إسلامية، وتسمى كل أسرة باسم شخصية إسلامية كبرى، على أن يكون تلاميذ كل أسرة على علم وثيق بمن انتمت إليه أسرتهم، على أن تتبادل هذه الأسر المناشط الدينية وتثار بينهم المنافسات الكريمة فى الجهاد الدينى، على أن يدعى أولياء الأمور لاجتماعات شهرية لهذه الأسر ؛ ليسهموا بجهودهم فى هذا المجال .
(15) استخدام القيادات المؤمنة من الطلاب فى جذب زملائهم إلى الإطار الذى ترسمه المدرسة ليتحرك بنوها فى حدوده، فإن تأثير الطالب على زملائه أعمق من تأثير الأساتذة عليه .
(16) وضع صندوق فى فناء المدرسة تجمع فيه التساؤلات الحرة للطلاب للرد عليها من جماعة الفتوى بالمدرسة .
(17) أن يعنى بالاحتفال بالمناسبات الدينية احتفالاً مخططاً له، لتكون صورة متكاملة تطبع فى نفوس الطلاب الإجلال لهذه المناسبة، ويجعل الهدف من إحيائها ربط الطلاب بشعائر الإسلام ومبادئه، فينبنى الاحتفال على أن تعرض مكتبة المدرسة فى ركن خاص كل ما لديها من تواليف دينية أعدت لهذه المناسبة الإسلامية، كما تقوم بندوات وأناشيد دينية ومسرحيات وأشرطة إسلامية .
(18) أن تزين جدران المصلى والمدرسة بلافتات تجذب الأنظار بجمال إخراجها وحسن اختيار ما يسطر عليها من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة والحكم البالغة والعظات الدينية الموجهة .
(19) الاهتمام باختيار شعار للمدرسة من الآيات والأحاديث، ويدرس الطلاب والطوالب بشتى الوسائل على الالتزام بما فى هذه الشعارات من قيم ومفاهيم، ويمكن أن يختار لمدارس البنات الشعار الذى يدعو إلى البعد عن التبرج والتمسك بأهداف الفضيلة والاحتشام فى الملبس والمظهر .
(20) أن تكون للتربية الدينية ركن فى المكتبة العامة وفى مكتبات الفصول، ويزود هذا الركن بخير ما تخرجه المطابع من الكتب الدينية الحديثة التى تربط بين الدين والحياة وبين الدين والعلم، وتناسب كل مرحلة من المراحل الدراسية .
(21) أن يكون للمصحف الشريف مكان الصدارة فى المكتبة العامة ومكتبات الفصول ومكتبة المصلى .
(22) العناية بالوسائل المعينة التى تساعد التلاميذ على فهم أبواب المنهج الدينى، وتشوقهم إليه، وتؤكد مفاهيمه فى نفوسهم، على أن يشترك الطلاب فى إعدادها .
(23) أن يكون بيد الطلاب فيما يقرر لهم من الكتب كتاب ذو موضوع واحد، يصور بعض البطولات الإسلامية والمعارك الإسلامية وأمجاد الإسلام العسكرية والعلمية، لتكون مثلاً عليا أمام الطلاب .
(24) ينتفع بمجلس الآباء فى دراسة وإنقاذ كل ما يجد من مشكلات فى سلوك الطلاب وعلاقتهم بالمدرسة وتصرفاتهم الخارجية .
(25) أن يحرص الزائرون الرسميون للمدرسة على الصلاة أمام التلاميذ ومعهم، ليترجموا عن العناية والاهتمام بأمر الدين، فتنصرف هذه العناية إلى التلاميذ .
(26) أن نستعين ببعض أولياء الأمور وغيرهم من المثقفين ثقافة دينية واعية، فى إلقاء بعض المحاضرات أو الدروس الدينية ليكونوا من أدوات التأثير وعوامل الاستجابة من الطلاب، مع الاهتمام بما يدور بين الطلبة من تيارات ونزعات قد تنحرف بالعقيدة والوجدان الدينى .
(27) التزام الحشمة والوقار فى الزى بمدارس البنات بين المدرسات والطالبات .
(28) أن تعد المدرسة معرضاً دينياً ينظم كل ما أنتجه الطلاب من وسائل تعليمية دينية، كصور المصلحين الإسلاميين ومناسك الحج والمعارك والغزوات، مع بعض البحوث الدينية التى أعدها الطلاب بإشراف رائدهم، وفى هذا تجسيد للقيم الروحية التى ننشدها لإعداد الجيل الجديد .
(29) إذا أمكن وصل النشاط الطلابى بالجماعات الإسلامية القائمة فى البلاد كان ذلك حسناً على أن يتم تحت إشراف المدرسة .
(30) يوضع اليوم الدراسى فى إطار يحدد أوله ونهايته تحديداً متصلاً بالدين فلا يدخل التلاميذ فصولهم فرادى، ولا ينصرفون منها فرادى، ولكن يجمعون فى صفوف قبل الدراسة والانصراف ليرددوا أناشيد دينية وقومية ذات معنى روحى وخلقى .
(31) أن تقوم المدرسة ببعض الرحلات الدينية التى يزور فيها الطلاب المساجد الكبرى والمتاحف الإسلامية والآثار والمعالم الدينية والتاريخية والمناطق السياحية الدينية، مما يوحى إليهم بأصالة ماضيهم الإسلامى وحضاراتهم المجيدة التى كانت مصدر إشعاع للعالم .
(32) تفتح أبواب بعض المدارس فى كل حى من الأحياء فى جميع المدن بجمهورية مصر العربية تحت إشراف مسئولين، وذلك لتحفيظ القرآن الكريم فى مدة العطلة الصيفية، وأن تخصص مكافآت مغرية لمن يحفظ جزءاً من القرآن، وكلما زاد عدد الأجزاء من القرآن زادت المكافآت .
الحوافز:
(34) خلق الحوافز بين الطلاب المتميزين دينياً من مثل إعفائهم من بعض الرسوم المدرسية أو رسوم الرحلات أو غير ذلك .
(35) أن ترصد نسبة مجزية من حصيلة مجلس الآباء لتأثيث المصلى، وإثابة المجيدين والمسابقات الدينية وإعانة المحتاجين من الطلاب .
(36) أن ترصد المناطق التعليمية مكافآت مالية سخية للطالب المثالى فى السلوك الدينى القيوم ليحفز ذلك غيرهم إلى أن ينهجوا نهجهم ويسلكوا سلوكهم .
(37) إعداد لوحات شرف للممتازين فى تحصيلهم الدينى وسلوكهم المستقيم ولمن يقوم بأعمال فى البر تستلزم التنويه بها والإشادة بمن قاموا عليها .
(38) إعداد شهادات تقديرية للطالبة أو الطالب الذى ينماز بالتحصيل الدينى ويسهم فى أنشطته ويتمسك بحبل الفضائل على أن ترسل هذه الشهادات إلى ذويهم لتبعث فيهم الحماسة للتربية الدينية فى المنزل، وليحرص البيت على النماء الروحى لهؤلاء الأبناء .
وبعد ..
(39) كل ما قدمناه إنما يدعم بالأجهزة الإعلامية الطاهرة النقية، أما إذا بقى الحال على ما هو عليه فى الصحافة والإذاعة والتليفزيون وغيرها من وسائل الإعلام فالجهد ضائع، لأن ما يبنى هنا تهدمه هذه الوسائل هناك .
والله ولى التوفيق .
أسئلة وأجوبة
[ هذه الأسئلة ـ وغيرها ـ وإن كانت هى الشغل الشاغل لكثير من الطلاب، إلا أن الذى تقدم بها هم طلبة جامعة الإسكندرية ]
**السؤال الأول
“ المرحلة القائمة فى العالم الإسلامى، هل تبشر بالخير وتثير التفاؤل ؟ أم أنها على النقيض نذير سوء ولا خير من ورائها ؟ “
*الجواب:
العالم الإسلامى اليوم فى فترة كئيبة من تاريخه الطويل، فترة فقد فيها وحدته، ونسى رسالته، وألمت به إغفاءة كبرى جعلته يتدحرج فى مؤخرة الركب الإنسانى ضعيف الوعى والحركة، يطمع فيه العدو ويأسى له الصديق .
وهذه حالة منكورة يستحيل قبولها أو ارتقاب خير من ورائها ..
ولقد قلت فى كتاب لى ـ لما يظهر بعد ـ ما أظنه إجابة شافية على هذا السؤال:
الفقر الحقيقى فى الأمة الإسلامية الكبيرة هو هذا الشلل الغريب فى الهمم والمواهب وهذا التخلف السحيق فى مجال الإنتاج والإجادة .
ثم ذلكم العبث بمعنى الإيمان والنكوص عن منطقه، إلى جانب تعلق وضيع بالشهوات ونهمة بادية إلى الدنيا .
وما نصف خصومهم بأنهم يكرهون الحياة وملذاتها، بيد أن الأمم القوية تبلغ ما تهوى بوسائلها الخاصة، أما الأمم الضعيفة فهى تلهث وراء غيرها تتعلق بركابهم تعلق المتسلقين بمركبات النقل أو المتسولين بأذيال السادة .
والنهوض الحقيقى هو زوال هذه العلل وفناء جراثيمه، وقدرة الأمة على الاستغناء بعملها وإنتاجها، والاستهداء بإيمانها وفضائلها، والاستعلاء على متاع الدنيا بحيث تأخذ منه بقدر وتنصرف عنه متى شاءت !!
ويؤسفنى التصريح بأن الشعوب الإسلامية حتى يومنا هذا لم تبدأ نهضة صحيحة، وأن مظاهر التقدم التى نراها أو نسمع عنها هى امتداد نشاط القوى الكبرى فى العالم أكثر مما هى تطلع المتأخرين للتقدم.
فالغرب الصليبى يصطنع شعوباً شتى لخدمة مآربه ويمدها بكثير من عونه المادى، وقليل من تقدمه الحضارى .
والشرق الشيوعى ينافسه فى هذا الميدان، ويحاول الاستفادة من أخطائه أو يحاول ميراثه إذا انتهى فى مكان ما وجمهرة المتعلمين أوزاع، بعضهم يؤثر النمط الغربى فى الفكر والسلوك، وآخرون قد أعجبتهم الماركسية فاصطبغوا ظاهراً وباطناً بنزعتها .
أما الذين يتشبثون بالعقائد والفضائل الإسلامية ويريدون بناء المجتمع الكبير على دعائم الوحى المحمدى فقلة غامضة فى الناس، ولا أقول منكورة الوجه منكودة الحظ .
من أجل ذلك قلت: إن الشعوب الإسلامية لم تبدأ بعد نهضة صحيحة، تكون امتداداً لتاريخها وإبرازاً لشخصيتها، أو نماء لأصلها، وتثبيتاً لملامحها .
ومن الغلط تصور أنى أحرم الاستفادة من تجارب الآخرين ومعارفهم !
كيف وهؤلاء الآخرون ما تقدموا إلا بما نقلوه عن أسلافنا من فكر وخلق ووعى وتجربة . إن دولة الخلافة الراشدة اقتبست فى بناء النظام الإسلامى من مواريث الروم والفرس دون غضاضة .
وعندما آكل أطعمة أجنبية أنا بحاجة إليها، فالجسم الذى نمى هو جسمى، والقوى التى انسابت فى أصالة هى قواى .
المهم أن أبقى أنا بمشخصاتى ومقوماتى .. المهم أن أبقى وتبقى فى كيانى جميع المبادئ التى أمثلها والتى ترتبط بى وأرتبط بها لأنها رسالتى فى الحياة ووظيفتى فى الأرض .
هذا هو مقياس النهضة وآية صدقها أو زيفها، فهل فى العالم الإسلامى نهضات جادة تجعل الإسلام الحنيف وجهتها، والرسول الكريم أسوتها ؟
إننا هنا حريصون أشد الحرص على جعل البناء الجديد ينهض على هاتيك الدعائم .. وإذا كنا نستورد من الخراج ثمرات التقدم الصناعى، وننتفع من خيرات غيرنا فى آفاق الحياة العامة فليكن ذلك فى إطار صلب من شرائعنا وشعائرنا .
فإنه لا قيمة لأحدث الآلات إذا تولى إدارتها قلب خرب، ولا قيمة لأفتك الأسلحة إذا حاول الضرب بها فؤاد مستوحش مقطوع عن الله مولع بالشهوات .
إن بناء النفوس والضمائر يسبق بناء المصانع والجيوش وهذا البناء لا يتم إلا وفق تعاليم السلام . [ من كتاب (حصاد الغرور) الذى تضمن ما ألقاه الكاتب من محاضرات فى جمعية الإصلاح الاجتماعى مع بحوث أخرى ]
**السؤال الثانى
هل تعتقد أن قضية فلسطين يمكن أن تحل سلمياً كما ينادى البعض ؟ وإذا كنت تعتقد هذا فما صورته فى ذهنك ؟ وإذا كان رأيكم أن الحرب هى الأمثل فما صورتها ؟ هل حرب شعوب أم حرب حكومات؟ وهل تكون عربية أم إسلامية ؟
*الجواب:
لقد قرر اليهود إقامة وطن قومى لهم فى فلسطين، وتحولت أمانيهم الدينية إلى مخططات مدروسة تنفذ بدقة وصرامة .
فهم باسم التوراة والتلمود جاءوا .
وتحت شعارات من الوحى الذى يقدسونه تحركت مواكبهم من أرجاء الشرق والغرب صوب فلسطين .
وفلسطين عندما قرر اليهود الاستيلاء عليها لم تكن أرضاً خلاء بل كان مسكونة بألوف مؤلفة من العرب، ومعنى تهويد هذه الأرض طرد من عليها من سكان أو إبادتهم وفق تعاليم العهد القديم .
وقد أعان الاستعمار إعانة فعالة على تحقيق هذه الغايات وتقريب بعيدها وتذليل صعابها، وانتهى الأمر فى سنة 1390 من الهجرة إلى قيام دولة لليهود تحاول البقاء فى وجه مقاومة متفرقة من العرب الذين صحوا على أشباح الضياع والذل والخيانة تحيط بهم من كل مكان، فهل يحتاج فهم هذا الموقف إلى ذكاء سطحى أو عميق ؟
إن الحرب قد أعلنت بالفعل على العرب، وهدفها المحدد إجلاؤهم أو إفناؤهم وإقامة وجود دينى يهودى على أنقاض جنسهم ورسالتهم وكتابهم فأين مكان الإسلام فى هذا الوضع ؟
إن السلام هنا معناه الاستسلام للذبح، معناه قيام سرائيل لا داخل حدودها الحالية وحسب !! بل فى الإطار الذى رسمته التوراة: من الفرات إلى النيل !!
ومعنى هذا ـ دون كد الذهن أو إعمال الذكاء ـ سحق الوجود العربى الإسلامى فى الشرق الأوسط، ثم الإجهاز على أطراف الأمة الإسلامية الكبرى فى أفريقيا وآسيا بعد زوال الكيان العربى الأصيل إذ العرب دماغ الإسلام وقلبه ! وتلك هى الغاية التى تسعى لها قوى كثيرة وتتجمع لتحقيقها عناصر شريرة .
وإنى ألمس وراء التحركات الكثيرة ضد فلسطين وأهلها هذه النيات السود، وتلك الأهداف الرهيبة، وإن أعجب فعجبى للذين يقادون إلى مصارعهم وهم مخدرون، وتلطمهم الأحداث وهم غافلون “ أو لا يرون أنهم يفتنون فى كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون ؟ “ [التوبة:129]
إن الحرب فرضت فرضاً على العرب، فلا خيار لهم بإزائها، ولا مكان للتساؤل عن فرص تجنبها بعدما دارت رحاها على يومنا وغدنا .
ولا معنى لتجنب الحرب إلا الاستسلام للفناء والرضا بالتلاشى والانقضاء، وما دام القتال قد كتب علينا بدوافع دينية وأحقاد تاريخية وأطماع استعمارية، وما دامت غايته إبادتنا فلا بد أن نتلاقى عرباً ومسلمين، حكومات وشعوباً ؛ لرد هذه الغائلة واستبقاء وجودنا المهدد .
إن الحرب المعلنة علينا دينية لا يمارى فى ذلك عاقل، وما دامت العقيدة سلاحاً يرتكز عليه العدوان فلم لا تكون العقيدة سلاحاً يرتكز عليه الدفاع ؟ وما معنى إبعاد الإسلام عن معركة هو فيها مستهدف ؟ وأمته فيها ضحية اليوم والغد ؟
إننى أعتقد فى أعماق قلبى أن إبعاد الإسلام عن المعركة لا يخدم إلا بنى إسرائيل ومن وراءهم من الحاقدين على رسالة محمد وجنسه القدامى والمحدثين .
وإبعاد الإسلام عن القتال الدائر أنفع لبنى إسرائيل من إمدادهم بألف طائرة من أفتك طراز .
إنه لا يفل الحديد إلا الحديد، ولا يصد عدواناً يعتمد على دين إلا دفاع يستند إلى دين .
**السؤال الثالث
الشيوعية والرأسمالية تتصارعان على اقتسام الأرض فما هو موقفنا ـ كمسلمين ـ من هذا الصراع ؟ وما هو رأيك فى مستقبل النظامين ؟
**الجواب:
فى العالم جبهتان متقدمتان مادياً وعقلياً تتنازعان زمامه وتبغى كلتاهما أن تنفرد بقيادته وتوجيهه ..
والمفروض فى نظر الكثيرين أن تنتصر إحداهما لبسط سلطانها على العالم أجمع .
ولست فى جانب هذا الفرض، بل ما أرجحه أنه ستوجد جبهة ثالثة تقدم للعالم نموذجاً أفضل لمجتمع بشرى عادل حر مؤمن بالله ورسله ولا يطمع فى السيطرة على الآخرين ولكنه يستطيع أن يضىء لهم الطريق .
ولى ملاحظة على العنوان الذى يطلق على العالم الرأسمالى !
إن رأس المال عندما يتكون من حلال طيب، لا من مال منهوب ولا من حيف على الطبقات الكادحة، وعندما يقوم بسد الثغرات الاجتماعية لا بتوسيعها، واحترام الحقوق الأدبية لا إهدارها .. إنه فى هذه الحالة يصلح أساساً لجماعة إنسانية كريمة، ولكن العالم الرأسمالى الآن يقوم بعمليات خطف كبرى لثروات الشعوب ويعمل على توسيع الفتوق فى الكيان العالمى ويجتهد فى إهدار الكرامة البشرية للملونين، كما يجتهد فى إهدار حقوق الأمم الضعيفة وإبقائها فى منزلة التابع المهين .
وعندى أن العالم الشيوعى إنما يمتد مستغلاً أخطاء الرأسمالية فى الميادين الاجتماعية والسياسية، وهى أخطاء جسيمة، وهناك كتل من الشعوب التى ضارها الحرمان والذل، ترمق المعسكر الشيوعى بعين الخيال، تحسب أن نجاتها عنده، وعذرها أنها تريد الخلاص مما تعانى إلى ما تؤمل !! ثم إن الدين قد تخلى عن وظيفته السماوية فى ظل هذه الرأسمالية !!
وقد رأينا ـ نحن العرب ـ كيف تجمع اليهود على دانتهم لاستئصالنا، وكيف أعانتهم الدول المسيحية الكبرى علينا إشباعاً لحقدها وجشعها .
فإذا احتقر الماديون دور الدين فى صياغة مستقبل الإنسان فهم معذورون، لأن طبول الحاخامات والباباوات كنت تدق بحماس فى مواكب المعتدين !!
إن العالم الرأسمالى ينتحر بما يتناوله من تفرقة عنصرية ومظالم مادية وأدبية، وبما يكنه فى ضميره الآثم من ضغائن على الإسلام والمسلمين ..
فهل معنى هذا الكلام أن البشرية ستؤثر الكفر بالله والبعد عن هداه ؟ لا أعتقد .
إنها ستبقى فى حيرة تطول أو تكثر حتى يوجد جيل من الناس يقدم لها الهدى مقروناً بالعدل، والحرية مقرونة بالفضيلة، والإيمان بالروح مقروناً بتقدير الجسد، والإيمان بالآخرة مقروناً بتقدير الدنيا.
ما اسم النظام الذى يقوم بهذا الدور الفريد المجيد ؟
اسمه الإسلام !
وليس للإسلام الآن أمة تقدمه بمفهومه الحقيقى القديم ! توجد بقايا كيان متهدم تفوح منه رائحة البلى تنتشر بقاياه على أديم القارتين القديمتين، وتسكن فى أكواخه ثمانمائة مليون مسلم ..
أنا شخصياً أحد الضائقين بأحوال هذه الأمة النائمة .. كما أننى أحد الذين يناشدون أمتهم تلك أن تعود إلى ربها ونبيها وكتابها، والله يعلم متى تجيب ؟
إننى أطلب من المسلمين ـ قبل أن يحددوا موقفهم من هذا وذاك ـ أن يحددوا موقفهم من الإسلام المستوحش الغريب، ثم على ضوء هذا الموقف نعامل الصديق والعدو !!
وحقيقة أخرى أقررها هنا .. إن الإسلام لما يأخذ بعد امتداده الذى كتب الله له !
لقد روى الإمام أحمد فى مسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا الدين سيبلغ ما بلغ الليل
والنهار .. وهذا تعبير غريب وهو صريح فى أن الإسلام سيصبغ العالم أجمع [ ابن حبان فى صحيحه كما قدمنا ]
كما جاء فى الصحاح أنه باسم الإسلام ستمتلئ الأرض عدلاً بعدما ملئت جوراً، وان صحراء الجزيرة ستتحول إلى أرضين تهتز زرعاً [ إشارة إلى حديث مسلم (3/84) وأحمد (2/703) والحاكم (4/477) . راجع الأحاديث الصحيحة للشيخ ناصر الدين (1/10) ] ..
وفى حديث آخر “ أمتى كالغيث لا يدرى أوله خير أم آخره “ .
ومن هنا فنحن نعتقد أن المستقبل لدين الله الحق لا للنظم الأرضية الأخرى، وإذا كان مسلمو اليوم ضياعاً فلأنهم ينتمون إلى الإسلام انتماء مزوراً، وهم عبء عليه لا عون له !
وإذا انتهى دور الإسلام فى الأرض فذلك إيذان بانتهاء الإنسانية على سطح هذا الكوكب، وبدء حساب الأولين والآخرين على ما اقترفوا من خير وشر !
**السؤال الرابع
تثور نزعات نحو وحدة أو اتحاد فى منطقتنا تحت شعار القومية العربية أو القوى التقدمية أو تطالب بتجمع إقليمى كالمغرب الكبير مثلاً، فما رأيكم فى هذا اللون من التفكير ؟ وهل عندكم بديل أو صبغة أخرى تقدمونها للمجتمع المسلم ؟
*الجواب:
التجمعات الإقليمية فى إطار التكامل الاقتصادى والعمرانى أمر لا حرج فيه، بل قد يكون من المصلحة العامة دراسة أقطار العالم الإسلام الرحب لإنشاء تجمعات كثيرة تنتظمه شرقاً وغرباً وتكفل تقدمه المادى والاجتماعى، والمغرب الكبير أو وادى النيل أو الجزيرة العربية أو جزائر أندونيسيا أو غير ذلك من الوحدات الاقتصادية المتناسقة يمكن أن تولد وتنمو داخل الكيان الإنسانى الموحد الذى يجب أن يعود إلى الحياة الدولية مرة أخرى .
إن الصعوبات التى تتوهم أمام أى تجمع إسلامى أقل من الصعوبات التى انتصبت بالفعل أمام أى تجمع عربى ..
ولكن أمام المناضلين المسلمين مراحل طويلة حتى يستطيعوا أن يقيموا جامعة إسلامية ضخمة تلم شمل المسلمين، وتداوى جراحاتهم، وتحرر مستعبديهم، وترد العدوان عنهم .
ولا أدرى لماذا يكون الوجود الصينى واقعاً عادياً فيصبح 800 مليون إنسان دولة موحدة ويكون الوجود الإسلامى خيالاً مستبعداً ؟ ولو كان اتحاد ولايات أو تحالف دول متآخية !!
إن شئون المسلمين لا تعالج للأسف بالعقل العادى، فالتأثر بالاستعمار والتبعية الذليلة للغزو الثقافى هما أساس التجهم الغريب لكل كلام عن الإسلام وأمته الكبرى ووحدته المنشودة ..
إن القارة الاستعمارية التى شنتها أوربا على الإسلام وأتباعه منذ قرنين تقريباً استهدفت أمرين رهيبين:
ـ الأول: رفض أى تلاق على الإسلام بين الشعوب المنتسبة له، وتمزيق الولاء الموروث نحو الجامعة الإسلامية وإحياء نزعات قومية حقيقية ومفتعلة، تجعل أبناء الأسرة الواحدة متناكرين لا يلوى أحدهم على الآخر ولا يحترم آصرة الدين المشترك .. وبذلك أصبح المسلمون أوزاعاً بين 60 أو 70 جنسية فى المجال الدولى .
ـ الثانى: تمويت الإيمان فى ضمائر الأفراد بحيث ينفصل السلوك عن العقيدة، فينحرف هذا وتنكمش تلك، ويصبح المجتمع مسرحاً للمباذل المستقرة والأهواء المطاعة والتيارات الطائشة، ثم يتحول ما بقى من دين على أشكال فارغة وبدع حقيرة لا تغنى عن أصحابها شيئاً .
وبكلا الأمرين نجح الاستعمار الحاقد فى بلوغ أهدافه منا وكان وصوله إلى إقامة إسرائيل سهلاً بعد التمهيد المزدوج الذى شرحناه آنفاً، وهو إبعاد الولاء للإسلام فى المجال العام، وتوهين الرباط بالعقيدة فى مجال العبادة والخلق وأنواع المعاملات الأخرى .
ونستطيع أن نقول دون مواربة أو مداهنة إن كل نزعة ترمى إلى إنصاف الإسلام ـ من حيث هو جامعة عامة أو من حيث هو ضمير ـ ليس إلا امتداداً للزحف الاستعمارى والتفافاً خسيساً حول بقايا الإيمان فى قلوبنا وصفوفنا .
ولن تجد إسرائيل خيراً من هذه النزعات بعينها على البقاء، ويضاعف انتصاراتها علينا .
ولا أدرى كيف فشت هذه الخيانات الدينية فى أرجاء الأمة العربية ! إن هناك معادلة يجب أن يحفظها كل عربى عن ظهر قلب هى “ عرب - إسلام = صفر “ .
نعم، العرب بدون دينهم لا يساوون شيئاً ..
وقد كنا نحن مسلمى أفريقيا لا نفرق بين العروبة والإسلام، كما أن مؤرخى أوربا لا يعرفون هذه التفرقة حين قال جوستاف لوبون: إن العالم لم يعرف فاتحاً أرحم من العرب .
حتى البدعة المهينة التى اختلقها ميشيل عفلق واقترح فيها البعد عن الإسلام طريقاً للبعث العربى !
والواقع أن الرجل بنصيحته تلك كان يحفر القبر العربى ليدفن فيه أمة ورسالة .
وليس غريباً من مثله أن يصنع ما صنع ! إنما الغريب أن يفتتن بنعرته بعض الناس فيسارعوا إلى الارتداد عن الإسلام والكفر بالله والمرسلين .
فماذا أفادوا ؟ إنه لم تظهر دعوة أشأم على قومها وأبين فشلاً وأسوأ عقبى من هذه الدعوة المرتدة .
ولعل العرب يعقلون بعد أن مس جلدهم لهب الأحداث ويعرفون إلى أين قادتهم هذه الخدع، وكيف عفرت وجوههم بالتراب ؟
وفرية أخيرة نريد دحضها .. إن الإسلام لا يعرف التعصب ضد أديان أخرى، ولا يجعل الاختلاف الدينى ذريعة قتال وخصام، ولو أن البضعة عشر مليوناً من يهود العالم عاشوا بين ظهرانى المسلمين ما أحسوا غبناً ولا شكوا اضطهاداً مثل ما وقع عليهم فى أوربا . إن أوربا رمتنا بدائها وانسلت، إنها كانت ولا زالت تجعل الخلاف الدينى والمذهبى مثار حروب وعداوات، وهى بهذه العقلية تحاول تمزيق الكيان العربى الذى عاش فيه المسيحيون دهراً طويلاً مواطنين مكافئين للمسلمين فى الحقوق والواجبات، وهدفها إما قتل الإسلام وإما خلق فتن طائفية فى كل مكان .
والخطة معروفة، وعلى المسلمين أن يزدروها ويزدروا مروجيها ويفضحوا من وراءهم .
إن مطالبة العرب بالتخلى عن الإسلام سفالة لا قرار لها، وإنى أقول لقومى: لا خيار لكم أمام مؤامرات عالمية واسعة .. مطلوب منكم أن ترتدوا عن دينكم وأن تتنازلوا عن أوطانكم وهذه وتلك طريق العار والنار ..
وتستطيعون أن تستندوا إلى ربكم وتجاهدوا دون وجودكم المادى والمعنوى .
واسمعوا قول رسول الله لكم: “ إن ربى قال: يا محمد، إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإنى أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها”.
أى أن قوى الشر لو تألبت كلها ضدنا ما نالت منا شيئاً إذا توحدت كلمتنا وتجمع شملنا وتماسك صفنا، أما إذا تفرقنا شيعاً وانقسمنا أحزاباً فسيأكل بعضنا بعضاً ويخلو الطريق للمتربصين .
**السؤال الخامس
الناس يقولون إن التشريع الإسلامى مثالى للغاية، ولكن لا يصلح للتطبيق فى زماننا هذا لتداخل الظروف وتعقد الحياة الاجتماعية، فما رأيكم ؟
*الجواب:
التشريع الإسلامى تراث ربانى وإنسانى ضخم، والحكم عليه بكلمات عابرة ضرب من الطيش يتنزه عنه العقلاء .. ولما كان هذا التشريع يتناول شئون الأسرة، وأشتات المعاملات المالية والتجارية، ويبت فى عقوبات لطائفة من الجنح والجنايات ويجه فى أخرى، بل إن هذا التشريع يتناول دستور الحكم فى الدولة ويتعرض للعلاقات بينها وبين الدول الأخرى فى حالتى السلم والحرب .. لما كانت دائرة هذا التشريع رحبة إلى حد بعيد فإن المرء يحار فى تفسير كلمة “ مثالية “ هذه التى يرمى بها الإسلام فى جانب رائع من تعاليمه .
وسأمشى مع الحدس فى تلقى هذا الاتهام وتحديده !
لعل الإسلام مثالى فى رجمه الزانى أو جلده .
إن بعض الناس إذا ذكر الشرع الإسلامى وثبت إلى ذهنه هذه القضية الخطيرة جداً (!)
وعجيب أن يذهل الفكر البشرى عن آيات الإبداع القانونى فى أزكى ميراث حضارى وعته الإنسانية فى تاريخها الطويل فلا ينزعج إلا لرجم الزانى أو جلده، أو بعض صور الحدود والقصاص الأخرى .
إن قصة الرجم يوم تكون سوأة تشريعية ـ كما يتصور البعض ـ فستكون سوأة الأديان كلها لأن الرجم هو حكم التوراة كما لا يزال مقرراً فى العهد القديم، وكذلك أحكام القصاص الأخرى !
وغريب أن يكون هذا الحكم شديداً وأن هذه الغرابة تنقطع يوم يبيح القانون العصرى الزنا، ما دام بالتراضى واللواطة أيضاً (!) ما دام الطرفان متفاهمين !!
ويمضى الاتجاه الواقعى فى مجراه المقبول (!) فيندد قاض أمريكى برجل ضرب زوجته لأنها زنت مع صديق له، وينصحه أن يطرح رجعيته أو مثاليته ويعيش فى هذا العصر المتقدم !!
إذا كانت المثالية تعنى الشرف والتسامى وإرضاء الله وضبط النفس وتهذيب الغرائز فيجب أن يكون التشريع مثالياً، ومن السماجة أن يعاب الإسلام فى هذا المضمار ..
أما الواقعية التى تعنى إقرار الفسوق والعصيان، فلا أدرى لماذا تسمى قانوناً ؟
إن المسالة ليست قتل مجرم أو قطع يده أو جلد بدنه .. إن المسالة أكبر من ذلك، والشريعة الإسلامية أكبر قدراً من أن تتناول بهذا الصغار الفكرى .. الأمر يتصل أولاً بحقيقة العلاقة بين الناس وربهم، وطبيعة الدين الذى نزل يحكم فيما شجر بينهم ..
هذا موضع الخلاف بيننا نحن المؤمنين، وبين غيرنا ممن وهت صلتهم بالله .
نحن نعتقد أن الوحى كل لا يتجزأ، وأن حق الله فى الحكم على عباده فوق الجدل، وأن شريعته تحقق العدالة والمصلحة، وأن تكذيب آية فى الميراث كتكذيب آية فى التوحيد أو فى الصلاة، لا معنى لها إلا رفض الخضوع لله والرد لأمره ونهيه .
أما بالنسبة إلى قصة المثالية والواقعية التى قد ترد على بعض الأذهان فنسوق فى دحضها كلمات مبينة للأستاذ العقاد من كتابه (حقائق الإسلام وأباطيل خصومه) [ص 115]:
“ وعلى هذه السنة من المساواة بين حقوق الدين فى نشر العقائد، وحقه فى فرض الشرائع والمعاملات ننظر إلى معاملات الدين الإسلامى كما ننظر إلى عقائده فلا نرى فيها ما يعوقه عن أداء رسالته العالمية الإنسانية التى توافرت له بدعوى إلى إله واحد هو (رب العالمين أجميعن، وخالق الأمم بلا تمييز بينها فى الحظوة عنده غير ميزة التقوى والصلاح .. رب المشرقين ورب المغربين، يصلى اله المر حيث كان: “ وأينما تكونوا فثم وجه الله “) ..
“ فما منع الإسلام قط معاملة بين الناس تنفعهم وتخلو من الضرر بهم، والغبن على فريق منهم ..
“ وأساس التحريم كله فى الإسلام أن يكون فى العمل المحرم ضرر أو إجحاف، أو حطة فى العقل والخلق ..
“ وما فرض الإسلام من جزاء قط إلا وهو (حدود) مقدرة بقدرها، وشروطها وقيودها صالحة على موجب تلك القيود والشروط للزمان الذى شرعت فيه، ولكل زمان يأتى من بعده، لأنها لا تجمد، ولا تتحجر، ولا تتحرى شيئاً غير مصلحة الفرد والجماعة، وكفى باسم (الحدود) تنبيهاً إلى حقائق الجزاء والعقاب فى الإسلام، فإنها (حدود) بينة واضحة تقوم حيث قامت أركانها ومقاصدها، وتحققت حكمتها وموجباتها، وإلا فهى حدود لا يقربها حاكم ولا محكوم إلا حاقت به لعنة الله ..
“ والشبهة المتوافرة فى العصر الحاضر إنما ترد على المعاملات الإسلامية من قبل الناقدين والمبشرين، لأنها تمس ضرورات الحياة المتجددة كل يوم، وترصد للمسلم فى طريقه حيث سار فيتحر الناقد الموطن الحساس من نفس المسلم حتى يلقى فى روعه أن شيئاً فى دينه يتقهقر به إلى الوراء ولا يصلح للتطبيق فى عصر النظم الحكومية التى تجرى القضاء والجزاء على أصول العلم والتهذيب ..
“ وليس فى المصارف والشركات شىء نافع برىء من الضرر والغبن يحرمه الإسلام “.
إن أساطين القانون اعترفوا فى مجامعهم العلمية ومؤتمراتهم الدولية بما للشريعة الإسلامية من قدر رفيع.
والواقع أن أئمة الفقه عندنا ـ على اختلاف مذاهبهم ومدارسهم ـ ورثونا تركة فنية لا نظير لها فى أزهى المدنيات القديمة والحديثة، ولا تزال بحوثهم الفنية المترفة مفخرة للفكر الإنسانى المجرد .. ثم جاءت هذه الأجيال الهابطة من ذرارى المسلمين المتخلفين تنظر إلى ما لديها من كنوز نظرة بلهاء، ثم تردد مع عملاء الصهيونية والاستعمار أن الإسلام مثالى وأن تشريعه لا يصلح للمجتمع !
إذا محاسنى اللاتى أدل بها
كانت عيوباً فقل لى: كيف أعتذر؟!
**السؤال السادس
قضية الجنس استبدت بتفكير الناس وفرضت نفسها على المجتمعات متحضرة ومتخلفة، فما العلاج عندكم ؟
*الجواب:
استشراء الفساد الجنسى أمسى حقيقة لا ريب فيها، ولكنى أعد التقاليد الإسلامية البالية شريكة فى المسئولية الجنائية مع الانحلال الذى وفدت به المدنية العصرية ..
إن هذه التقاليد لا تعرف الأحكام الإسلامية الصحيحة فى كثير من القضايا، وإذا عرفتها لم تقف مع بواعث التقوى وخشية الله فى تنفيذها ..
ومن مقررات هذه التقاليد المريضة جعل الزواج مشكلة اقتصادية رهيبة .
ثم فساد الصورة الإنسانية لوظيفة المرأة قبل الزواج وبعده .. والجهل التام بدور الأسرة فى التربية على امتداد مراحل العمر وهذه التقاليد التى تنهض على الرياء والتظاهر والتكلف كانت ولا زالت من أسباب انهيار الحضارة الإسلامية وتوالد أجيال حقيرة الفكر والسيرة والأمانى والهمم .
ولكى نعود إلى ديننا ونتصل بسيره الأول، ونتحصن ضد العلل النفسية والاجتماعية التى زحفت علينا مع الغزو الأجنبى لا بد من رعاية أمور شتى:
أولاً: توثيق الصلة بين المرأة وينابيع الثقافة الدينية والمدنية .
ثانياً: إعادة الحياة للعلاقة بين النساء وبيوت الله فى الصلوات .
ثالثاً: تدريس الوظائف التربوية للبيت المسلم حتى نستطيع تخريج أجيال تعرف ربها ودينها ومعاشها ومعادها على قواعد مغروسة فى اللحم والدم، وفضائل يرضعها النشء مع اللبن .
رابعاً: الحكم بإعدام ما تواصى المسلمون به فى تقاليد الزواج من مغالاة فى المهور وإسراف فى الحفلات وتكديس للأثاث وتنافس فى الكماليات، وإعادة الزواج إلى معناه السهل القديم ليكون عصمة وسياجاً للدين والدنيا.
خامساً: وصل ما بين البيت المسلم وقضايا المجتمع الكبرى حتى لا يحيا بيت فى جو منافعه الخاصة جاهلاً أو جاحداً ما وراءها ولو أن كل دولة مسلمة أنشأن وزارة للأسرة والشباب كى تضمن ما ذكرنا ما كان ذلك كثيراً، بل لعله يكون أقرب إلى حياتنا الإسلامية الصحيحة .
لقد راقبت وضع المرأة فى شتى البيئات فوجدت إنسانة محكوماً عليها بالجهل والقصور، مفروضاً عليها التفريط فى حقوق الله وتعاليم دينه فلِم ذلك ؟ وكيف يقع ذلك باسم الإسلام ؟
ورأيت جماهير المسلمين وكأنها متفقة على جعل الزواج مشكلة تقصم الظهور دون مبالاة بما ينشأ عن ذلك من شيوع الفسق والفجور، فأى تدين هذا ؟ وبأى حق يستولى بعض الآباء على المهور ؟
وبأى حق يكلف بعض آخر بالاستدانة ليعين على زواج ابنته ؟ ولماذا تطلب البنت عندنا أثاثاً لا تطلبه لنفسها المرأة الغربية ولا المرأة الشرقية ؟
إن المرأة العربية العادية ربما فرضت لنفسها بيتاً لا تحلم به امرأة من رواد الفضاء، فلِم بالله هذا الترف؟
لماذا نرتضى إغلاق البيوت على ألوف العوانس إذا لم يتزوجن وفق هذه التقاليد السفيهة ؟
وإلى أين تقودنا تقاليد الرياء التى تواضعنا على الاحتكام إليها ناسين ديننا ودنيانا على السواء ؟
إذا كان الإسلام دين الفطرة فإن العالم الإسلامى يكذب على فطرته، ويفتح أقطاره لفساد جنسى زاحف من كل ناحية يجعل الزنا عملة متداولة دون حرج، ويعطى كل أنثى وذكر حق الاتصال الحرام كلاً أو بعضاً حسب ما يشتهى .
والذين يفتعلون الأزمات والضوائق فى الطعام الحلال لا ينتظرون إلا إقبال الناس على الحرام الرخيص يعبون منه عباً .
وقد رأيت بنفسى ـ للأسف ـ ناساً يأخرون زواجهم إلى سن معينة حتى يتموه وفق تقاليده المقررة .. وإلى بلوغ هذه السن لا مانع من الزنا، وغير الزنا !!
ورأيت ناساً يستدينون بالربا ليقيموا الأحفال المطلوبة !
ومن هؤلاء من يقتل المرأة إذا زنت ويترك الشاب دون غضب !
فعلمت أن المسلمين فى هذا المجال وغيره لا يكترثون بحدود الله ولا يبالون سخطه، وأنهم كما يهوون، وقد يتبجح بعضهم فيصف هواه بأنه دين، وما هو إلا الكذب على رب العالمين .
ويجب تسهيل الزواج وأحكام التطبيق الدينى فى شئون الرجال والنساء على سواء .
**السؤال السابع
مناهج التربية فى مدارسنا وجامعاتنا صارت وسيلة للتوظيف وكسب العيش، وخلت من كل توجيه ونحن نحب أن نستنير برأيكم فى الوسيلة المثلى لمناهج التربية حتى يتخرج جيل مسلم ..
*الجواب:
توجد فى مدارسنا وجامعاتنا برامج دراسية حسنة تقدم أنصبة من العلم تشبه ما تقدمه نظائرها فى أعظم الأقطار، ويمكن أن تكون بعض المراحل الدراسية عندنا مساوية فى تقدمها العلمى لما يقابلها فى الشرق والغرب .
أما مناهج التربية تواكب مناهج للتعلم فالأمر يحتاج إلى نظر وتأمل .. !
إن العلم شحن الأذهان بألوان لا حصر لها من المعرفة .
أما التربية فهى الإفادة من هذا التقدم لتزكية الشخصية وتهذيب سلوكها ..
والتربية الدينية نوع خاص من البناء المعنوى يجعل المرء متجهاً بقواه كلها إلى غاية معلومة وضابطاً لحياته وفق نظام مرسوم ..
وهذا النوع من التوعية الدينية معدوم فى بعض الجامعات محارب فى بعضه، معترف به ومعترف بغيره فى بعض ثالث، وربما قدم نصيب محدود منه فى جامعة الأزهر ! والأصل فى التربية تعهد الأخلاق، ولما كان الخلق ـ بالتعريف العلمى ـ هو عادة الإرادة فإن المفروض فى برامج التربية:
أولاً: أن ترسم الوجهة للسلوك المنشود .
ثانياً: أن تدرب الأفراد على هذا السلوك، وتأخذهم به أخذاً مستمراً حتى يصبح طبعاً لهم وصبغة ثابتة فيهم، فالمربى أشبه بالزارع الذى يتولى البذر والحرث والسقيا والحماية والإخصاب والانتقاء حتى تنضج الثمرة وتؤتى أكلها كل حين بإذن ربها .
والطالب الذى يمر بهذه الأدوار، يصاغ فى قوالب معروفة الشكل والصورة، فإذا ربى على الصدق صعب عليه الاختلاق والتخريف، وإذا ربى على الأمانة انزعج من العوج والغدر .
وفى أثر التعود واستقامة الوجهة يقول الشاعر:
تعود بسط الكف حتى لو أنه
ثناها لبخل لم يتطعه أنامله !
ويقول آخر:
وينشأ ناشئ الفتيان فينا
على ما كان عوده أبوه !
وقد ربى الله محمداً صلى الله عليه وسلم ليربى به العرب، وربى العرب ليهذب بهم العالم أجمع “ لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفى ضلال مبين “ .
وكلمة التزكية تعنى التربية والتسامى بالنفس وامتلاك الهوى .
وذلك معنى الآية “ ونفس وما سواها . فألهمها فجورها وتقواها . قد أفلح من زكاها . وقد خاب من دساها”.
والتربية الإسلامية مذ دخل الاستعمار بلادنا تمر بمحنة شديدة، فلما خرج ووقعت البلاد فى الأيدى التى تتلمذت عليه مرت التربية الإسلامية بمحنة أشد ..
وذلك هو السر فى أننا نجد أصحاب محاصيل علمية كبيرة وكلفها قليلة الجدوى، إن لم تكن قريبة الضرر .
فإن العلم عند هؤلاء وقف عند حدود التصور الذهنى وحشو الأدمغة بجمل من القوانين والأحكام .
أما التربية التى تتوسل بهذا العلم إلى رفع المستوى النفسى والاجتماعى والتى تحول الشخص إلى صاحب مبادئ ومثل يعيش لها وقد يضحى من أجلها ..
هذه التربية لم توجد لها بعد مناهج واضحة ومؤسسات مسئولة .
والسبب فى ذلك هو الكره الخفى أو الجلى للإسلام وتاريخه ومطالبه ووصاياه ..
التعليم فى روسيا يكرس لخدمة الشيوعية، والتعليم فى بلاد كثيرة يربط بأهداف شتى ..
وكان مفروضاً أن يصحب برامج التعليم عندنا برامج للتربية الإسلامية اليقظى تشرف على السلوك الفردى والجماعى، وتجعل الحياة الخاصة والعامة محكومة بآداب الإسلام وتوجيهاته . [راجع فى هذا الباب: هذه المقررات لا نريد أن تنسى ]
ولكن الإسلام دين مهزوم فى المجالات الدولية، وقد انسحبت آثار هزيمته على مطالبه فى بلاده نفسها فأضحت كما نرى:
متعلمين يريدون بشهاداتهم العلمية مستوى معيناً من المعيشة، وسعراً خاصاً لما نالوه من دراسات وكفى!
فإذا ذهبت تفحص سلوكهم وجدت العلم قد أفاد فى تغيير الوسائل فقط، أما المآرب الدنيا فهى هى عندهم وعند الجهال !
ويستحيل أن تنهض أمتنا إلا يوم يكون العلم والتربية قرينين، ويوم تتقرر آداب الإسلام ومثله دون حرج أو دجل .
* * * * *
انتهى شيخنا ـ رحمه الله ـ من تحرير “ قذائف الحق “ فى رحلته الرمضانية إلى “ المغرب “ عام 1393 هـ، وكان الفراغ من تصحيحه فى غرة ذى الحجة من نفس العام، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
لا دين حيث لا حرية
[ نشر هذا المقال بعد حركة 15 مايو التى قام بها فى مصر الرئيس السادات ]
أثلجت صدرى الكلمات التى قالها رئيس الدولة عشية نجت مصر من المؤامرة الأخيرة !
لقد أكد أن الحريات ستوطد، وأن الحقوق ستصان، وأن القانون سيسود، ولن تغل يد عن عمل شريف، ولن يكمم فم عن كلمة حق، ولن يؤذن لصغير أن يتطاول، ولا لمنحرف أن يجور !!
لقد استقبلنا هذه المعانى والأنفاس تكاد تختنق لما عراها من ضيق، فكانت نسائم منعشة تتسلل خلال جو رهيب مقنط، وكان بوارق رجاء توحى بالخير .
وأحس القابعون وراء جدران السجن الكبير أن العصابة التى تسومهم سوء العذاب بدأت تذوب وتتلاشى.
إن إذلال الشعوب جريمة هائلة، وهو فى تلك المرحلة النكدة من تاريخ المسلمين عمل يفيد العدو ويضر الصديق .
بل هو عمل يتم لحساب إسرائيل نفسها .. فإن الأجيال التى تنشأ فى ظل الاستبداد الأعمى تشب عديمة الكرامة قليلة الغناء، ضعيفة الأخذ والرد .
ـ ومع اختفاء الإيمان المكين والخلق الوثيق والشرف الرفيع .
ـ ومع شيوع النفاق والتملق والدناءة .
ـ ومع هوان أصحاب الكفايات وتبجح الفارغين المتصدرين .
.. مع هذا كله لا تتكون جبهة صلبة، وصفوف أبية باسلة !
وذلك أمل إسرائيل حين تقاتل العرب، لأنها ستمتد فى فراغ وتشتبك مع قلوب منخورة وأفئدة هواء !
والواقع أن قيام إسرائيل ونماءها لا يعود إلى بطولة مزعومة لليهود قدر ما يعود إلى عمى بعض الحكام العرب، المرضى بجنون السلطة وإهانة الشعوب .
ولو أنصف اليهود لأقاموا لهؤلاء الحكام تماثيل ترمز إلى ما قدموا لإسرائيل من عون ضخم ونصر رخيص!
من أجل ذلك أحسست راحة عميقة لكلمات السيد محمد أنور السادات، وهو يهدر بضرورة احترام الشعب وكسر كل قيد يوضع على مشيئته .
إن هذه السياسة البصيرة هى الخطوة الأولى لقتال حقيقى مع المعتدين يقمع غرورهم ويقلم أظفارهم !
إن جماهير العرب عطشى إلى الحرية والكرامة، ولقد بذلت جهود هائلة لمنعها من الحق والجد وتعويدها عبادة اللذة إلى جانب عبادة الفرد، ولكن جوهر الأمة تأبى على هذه الجهود السفيهة، وإن كانت طوائف كثيرة قد جرفتها هذه المحن النفسية فهى تحيا فى فراغ ومجون مدمرين، لا تبقى معهما رسالة ولا ينخذل عدو ..
ومن ثم كان العبء على المصلحين ثقيلاً، ولكن ما بد منه لحماية حاضرنا ومستقبلنا .
ولقد تبعت الصراع بين الحكام المستبدين والرجال الأحرار منذ نصف قرن، ودخلت فى تلك المعمعة لأذوق بعض مرها وضرها .
وكنت أردد بإعجاب صيحات الرجال الكبار وهم يهدمون الوثنية السياسية ويلطمون قادتها ولو كانوا فى أعلى المواضع .
من ذلك صيحة الأستاذ الكبير “ عباس محمود العقاد “ عندما قال معرضاً بالملك فؤاد: إن الأمة على استعداد لأن تسحق أكبر رأس يخون الدستور أو يعتدى عليه !!
وقد قدم الكاتب الإسلامى الكبير إلى المحاكمة ليعاقب تسعة شهور فى سجن مصر العمومى ثم خرج الرجل من السجن فكان أول ما صنع أن زار قبر سعد زغلول ليؤكد بقاءه على العهد وتأييده لقضايا الحرية وخصامه لأعداء الشعب !
ومن قصيدته التى ألقاها على قبره نذكر هذه الأبيات الشامخة:
خرجت له أسعى وفى كل خطوة
دعاء يؤدى أو ولاء يؤكد
لأول من فك الخطى من قيودها
أوائل خطوى يوم لا يتقيد
وأعظم بها حرية زيد قدرها
لدن فقدت أو قيل فى السجن تفقد
عرفت لها الحبين فى النفس والحمى
وكان لها حب وإن جل مفرد
وكنت جنين السجن تسعة أشهر
فها أنذا فى ساحة الخلد أولد
ففى كل يوم يولد المرء ذى الحجى
وفى كل يوم ذو الجهالة يلحد
وما أفقدت لى ظلمة السجن عزمة
فما كل ليل حين يغشاك مرقد
وما غيبتنى ظلمة السجن عن سنى
من الرأى يتلو فرقداً منه فرقد
عداتى وصحبى لا اختلاف عليهما
سيعهدنى كل كما كان يعهد
والعقاد بهذا الموقف الشريف ينتظم مع سلسلة الأبطال الذين يذودون عن الإنسانية بطش الجبابرة وجنون العظمة عند نفر من الملتاثين المتحكمين .
ولا أزال أكرر ما ذكرت فى بعض كتبى من أن الحريات المقررة هى الجو الوحيد لميلاد الدين ونمائه وازدهاره !
وإن أنبياء الله لم يضاروا بها أو يهانوا إلا فى غيبة هذه الحريات، وإذا كان الكفر قديماً لم ينشأ ويستقر إلا فى مهاد الذل والاستبداد فهو إلى يوم الناس هذا لا يبقى إلا حيث تموت الكلمة الحرة وتلطم الوجوه الشريفة وتتحكم عصابات من الأغبياء أو من أصحاب المآرب والأهواء ..
.. نعم ما يستقر الإلحاد إلا حيث تتحول البلاد إلى سجون كبيرة، والحكام إلى سجانين دهاة .
من أجل ذلك ما هادنا ـ ولن نهادن إلى آخر الدهر ـ أوضاعاً تصطبغ بهذا العوج ويستشرى فيها ذلك الفساد .
ومرة أخرى أردد قول العقاد:
هو الحق ما دام قلبى معى
وما دام فى اليد هذا القلم !
إن البيئات التى تستمتع بمقادير كبيرة من الحرية هى التى تنضج فيه الملكات، وتنمو المواهب العظيمة، وهى السناد الإنسانى الممتد لكل رسالة جليلة وحضارة نافعة .
ولأمر ما اختار الله محمداً من العرب !
إن ذلك يرجع إلى طبيعته الذاتية، وطبيعة الجنس الذى ينميه على السواء !!
فإن العرب أيام البعثة كانوا أسعد الأمم بخطوط الحرية المتاحة لهم، بينما كان الروم والفرس جماهير من العبيد الذين تعودوا الانحناء للحكام والسجود للملوك وضياع الشخصية فى ظل سلطات عمياء وأوامر ليس عليها اعتراض.
أما العرب فكانوا على عكس ذلك، حتى لكأن كل فرد منهم ملك وإن لم يكن على رأسه تاج !
ونشأ عن ذلك الاعتداد الخطير بالنفس أن كفار القبيلة كانوا يموتون دفاعاً عن مؤمنيها، وكانت حرية الكلمة متداولة فى المجتمع تداول الخبز والماء ..
ووسط هذا الجو شقت رسالة الإسلام طريقها صعداً لم تثنها المعوقات الطبيعية التى لا بد منها ..
ومن الفطر القوية لأولئك العرب الأحرار كانت الانطلاقة التى عصفت بالحكومات المستبدة وبدلت الأرض غير الأرض والناس غير الناس .
ذلك أنه يستحيل أن يتكون فى ظل الاستبداد جيل محترم، أو معدن صلب، أو خلق مكافح .
وتأمل كلمة عنترة لأبيه شداد لما طلب منه الدفاع عن القبيلة، قال: إن العبد لا يحسن الكر والفر، ولكنه يحسن الحلب والصر ! فأجاب الوالد: كر وأنت حر !
وقاتل “ عنترة “ وتحت لواء الحرية أدى واجبه، ولو بقى عبداً ما اهتم بهلاك أمة من الناس فقد بينهم كرامته ومكانته ..
ومن مقابح الاستبداد أسلوبه الشائن فى إهانة الكفايات وترجيح الصغار وتكبيرهم تبعاً لمبدئه العتيد:
أهل الثقة أولى من أهل الكفاية .
ومن هم أهل الثقة ؟ أصحاب القدرة على الملق والكذب .. اللاهثون تحت أقدام السادة تلبية لإشارة أو التقاطاً لغنيمة .
هذا الصنف الخسيس من الناس هو الذى يؤثر بالمناصب ويظفر بالترقيات، وتضفى عليه النعوت، ويمكن له فى الأرض ..
أما أهل الرأى والخبرة والعزم والشرف فإن فضائلهم تحسب عليهم لا لهم، وتنسج لهم الأكفان بدل أن ترفع لهم الرايات ..
والويل لأمة يقودها التافهون، ويخزى فيها القادرون ..
وقد كنت أقرأ فى الصحف ـ دون دهشة ـ كيف أن المسئول عن “ الثقافة والفكر فى الاتحاد الاشتراكى “ رجل أمى يصيح كلما سأله المحقق: اعذرنى فإنى جاهل ..
إن هذه طبيعة الأوضاع التى تعيش على الظلام وتكره النور .
ما أكثر العلماء فى بلادنا لو أريد توسيد الأمر أهله، ولكن العلماء ليسوا موضع ثقة لصغار المتصدرين لأن العالم يستنكر المتناقضات ويكره الدنية، ويقول بغضب:
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة
إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما
أما وقد أزال الله الغمة، وعلت كلمة الأمة فلنعد بالأمور إلى أوضاعها السليمة، ولنوفر الحريات التى طال إليها الشوق واشتد الحنين .
لقد كان الاستبداد قديماً أقل ضرراً من الاستبداد الذى نظمته الدولة الحديثة فى هذه الأعصار، فإن الدولة فى العصر الحديث تدخلت فى أدق شئون الفرد وبسطت نفوذها على كل شىء .
ومن هنا كان الدمار الأدبى والمعنوى الذى يصحب الاستبداد بعيد الآماد خبيث العواقب .
ومن أحسن ما قيل فى تشييع ظالم مستبد:
لتبك على “ الفضل بن مروان “ نفسه
فليس له باك من الناس يعرف
لقد صحب الدنيا منوعاً لخيرها
وفارقها وهو الظلوم المعنف
إلى النار فليذهب ومن كان مثله
على أى شىء فاتنا منه نأسف ؟
اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان .
يا للرجال بلا دين
إننى أسأل نفسى بإلحاح فى هذه الأيام العجاف: هل يشعر العرب بأن محمداً مرسل للعالمين، وأن هذه “ العالمية “ فى دعوته تفرض عليهم بعد إذ عرفوه أن يعرفوا الناس به، وهم عندما يعرفون الناس به لن يصفوا لهم ملامحه الشخصية وإنما يشرحون لهم رسالته الإلهية !
لكن عرب اليوم لا يقدرون محمداً قدره، ولا يخلفونه بأمانة فى مبادئه وتعاليمه، ولا يحسون قبح الشبهات التى أثارها خصومه ضده، بل هم ـ علماً وعملاً ـ مصدر متاعب للإسلام ولنبيه الكريم، وشاهد زور يجعل الحكم عليه لا له !
قد تقول حسبك حسبك أن الناس بخير، ومحبتهم لرسولهم فوق التهم فلا تطلق هذه الصيحات الساخطة، فما تحب الجماهير أحداً كما يحب أتباع محمد محمداً ..
وأقول لك: سوف أغمض العين عن ألوف من المتعلمين ضلل الاستعمار الثقافى سعيهم وشوه بصائرهم وأذواقهم، مع أن وزنهم ثقيل فى قيادة الأمة العربية، فما قيمة الحب الرخيص الذى تكنه جماهير الدهماء ؟
إنه حب غايته صلوات تفلت من الشفتين مصحوبة بعواطف حارة أو باردة، وقلما تتحول إلى عمل كبير وجهاد خطير، والترجمة عن حب محمد بهذا الأسلوب فى وقت ينهب فيه تراثه أمر مرفوض إن لم يكن ضرباً من النفاق !
أذكر أنى ذهبت يوماً لأحد التجار كى أصلح شيئاً لى، فاحتفى بى وقدم بعض الأشربة، وأفهمنى أنه أتم ما أريد بعد أن وفيته ما أراد . ثم شعرت أن عمله كان ناقصاً ولا أقول مغشوشاً !
فقلت: ليته ما حيا ولا رحب وأدى ما عليه بصدق ! ماذا أستفيد من تحيات لا جد معها ولا إخلاص .
والشأن كذلك مع أقوام قد تموج أحفال المولد النبوى بهم أو قد يصرخون بالصلاة على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى أعقاب الأذان، أو قد يؤلفون صلوات من عند أنفسهم يحار المرء فى تراكيبها لإغراقها فى الخيال .
وقد يكون حبهم تمسكاً شديداً ببعض النوافل وهروباً تاماً من بعض الفرائض أو حناناً لا ندى معه ولا عطاء كهذا الذى قال له الشاعر:
لا ألفينك بعد الموت تندبنى
وفى حياتى ما قدمت لى زادا
أى حب هذا .. إن العرب لا يعرفون أى شرف كتب لجنسهم ولغتهم وأمسهم وغدهم عندما ابتعث الله محمداً منهم، وإن التقدير الحق لهذا الشرف لا يكون بالسلوك المستغرب الذى يواقعونه الآن ومنذ بدأوا يعبثون برسالة الله بينهم .
لما أراد رب العزة أن يعلن بركته النامية ورحمته الهامية اختار فى كتابه العزيز عبارتين مبينتين:
الأولى: تتحدث عن البركة فى مظهر القدرة التى تجمع أزمة الكون فى يده، فيستحيل أن يغلب يوماً على أمره أو يشركه أحد فى ملكه، وفى هذا المعنى يقول جل شأنه “ تبارك الذى بيده الملك وهو على كل شىء قدير “ .
والثانية: تتحدث عن البركة فى صورة الرجل الذى حمل هداه الأخير إلى عباده وتفجرت ينابيع الحكمة من بيانه وسيرته، فكان القرآن الذى يتلوه مشرق شعاع لا ينطفي، يهتدى على سناه أهل القارات الخمس ما بقى الليل والنهار . وفى هذا المعنى يقول جل شأنه “ تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً “ [ الفرقان ] .
إن الإنسان المبعوث رحمة للعالمين أشعل الأمة التى ظهر فى ربوعها فانطلقت لأول مرة من بدء الخليقة تحمل للناس الخير والعدل واستطاعت أن تؤدب جبابرة الأرض الذين عاثوا فى أرجائها فساداً وظنوا أن كبرياءهم لن يخدشها أحد !
حتى جاء الرجال الذين رباهم محمد، فقوموا صعر المعتدين، وأعزوا جانب المستضعفين، وكم تحتاج الدنيا فى يوم الناس هذا إلى هذا الطراز من الرجال ليحموا الحق الذليل وينقذوا التوحيد المهان ويقروا الأخوة الإنسانية المنكورة وينزلوا البيض إلى منزلة السود أو يرفعوا السود إلى منزلة البيض ..
لكن السقطة الرهيبة للعرب المعاصرين أنهم ذاهلون عن المكانة التى منحهم محمد إياها هابطون عن المستوى الذى شدهم إليه، وفيهم من يفتح فمه ليقول: إن العرب يمكن أن يكونوا شيئاً من غير محمد !!
قبح الله وجهك من قائل أفاك ..
ومن أيام جاءنى نفر من العامة متنازعون على إدارة مسجد: بعضهم يريد أن يقول فى الأذان: “ أشهد أن “ سيدنا “ محمداً رسول الله “ .
والآخر يريد الاكتفاء بالوارد فلا يذكر لفظ “ سيدنا “ لأنه مبتدع .
ونظرت إلى أعراض المرض الذى يفتك بالأمة المعتلة، وقلت لهم: إن محترفى الإفك من المبشرين والمستشرقين ملأوا أقطار العالم بالافتراء على محمد وشخصه ودينه، ورسموا له صورة مشوهة فى أذهان الكثيرين وأنتم هنا لا تزالون فى هذا الغباء .
ما أشقى ديناً أنتم أتباعه، إن المسلمين بين ما ورثوا من جهل وما نضح عليهم من ضلال العصر لا يزالون يهرفون بما لا يعرفون ..
.. إن حب محمد يوم يكون لقباً يضفيه عليه الكسالى الواهنون فهو حب لا وزن له ولا أثر ! ويوم يكون أحفالاً رسمية وشعبية بيوم ميلاده فهو حب لا وزن له ولا أثر ! ويوم يكون قراءة للكتاب المنزل عليه فى مواكب الموت ومجالس العزاء فهو حب لا وزن له ولا أثر ! ويوم يكون ادعاء تستر به الشهوات الكامنة والطباع الغلاظ فهو حب لا وزن له ولا أثر ! .. لأن محمداً هو الرسول الذى رسم للبشر طريق التسامى الحقيقى، ورسم للجماعات طريق التلاقى على الحقائق والفضائل فدينه عقل يأبى الخرافة وقلب يعلو على الأهواء .
ـ ماذا كسب المسلمون عندما حولوا الدين من موضوع إلى شكل ؟
ـ وماذا كسب العرب عندما شقوا طريقهم إلى المستقبل وهم يطوون اسم محمد وتراثه عن نشاطه السياسى والعسكرى ؟
ولو نظرت إلى هذه الألوف المؤلفة من الكنائس والمعابد لوجدت داخلها أجهزة منظمة دوارة تعمل من غير ملل لصرف الناس عن الإسلام ونسبة أقبح النعوت إلى نبيه المبرأ الشريف ..
وكأن الله تبارك اسمه شاء أن يعرف هذه الأمم مدى ما كانت فيه من غباوة وأن يذيقها شيئاً من مرارة الجريمة التى ارتكبتها، فهو فى ساحة العرض الشامل لأصناف الخلائق يحشر سكان القارات الخمس على مر القرون يحشرهم فى صعيد واحد، ثم يكشف الغطاء عن عيونهم وإذا هم يتبينون فداحة جهلهم بالله الكبير المتعال، ويتبينون شناعة خصامهم لإمام رسله ..
وهنا يموج بعضهم فى بعض [ كتبنا هذا الكلام فى كتابنا “ من هنا نعلم “ من ثلث قرن ]، ويضطربون فى حيرة مفزعة لا يرجى منها خلاص، وتتحرك جموعهم إلى كل نبى سمعوا باسمه فى العالم الذى انتهى يناشدونه أن يسأل الله لهم الرحمة، ولكن النبيين كلهم يرفضون التصدى لهذا المطلب، ويعود أهل القارات الخمس متراكضين إلى الرجل الذى طالما قيل لهم إنه كذاب، إنهم يحسون الآن عن يقين أنهم أخطأوا فى حقه، وأنهم يوم صدوا عنه كانوا يخسرون أنفسهم وأهليهم .. ! [ يشير شيخنا إلى حديث الشفاعة الطويل الذى رواه الإمام أحمد، والبزار، وأبو يعلى، وابن حبان فى صحيحه راجع الترغيب (4 / 425) ] .
الشفاعة العظمى فى رأيى موقف يحاكم فيه التاريخ البشرى كله ليعترف أن انصرافه عن الإسلام كان مشاقة لله وعداء لأحب أوليائه وأصدق دعاته ..
وما أعجب أن تجد الإنسانية نفسها فى حرج يوشك أن يقضى عليها ثم تعلم فجأة أن التنفيس عن كرباتها ربما تم باللجوء إلى الرجل الذى عاشت دهوراً، وهى تروى عنه الأكاذيب وتنسب إليه الأساطير .
والتجاء أهل الأرض إلى محمد فى هذه الساعة العصيبة ولجوءه إلى الله يطلب مغفرته لعبيده الأغرار، ذلك فى ظنى هو المقام المحمود، المقام الذى نسأله لمحمد عقب كل أذان يتردد صداه فى مهاب الريح ليستجيب له قوم وينصرف عنه آخرون “ اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت “ محمداً “ الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذى وعدته “ .
قلت: إن محمداً فى عالم العقائد والحقائق شمس وضاحة نفاحة، لكن العميان كثيرون، وقد مكث هذا الرسول النبيل يصدع بأمر الله وينقذ الناس من أهوائهم ومظالمهم، ثم ذهب إلى الرفيق الأعلى تاركاً فينا تراثه الجليل من كتاب وسنة، فليتعلم الدعاة من حياة سيد الدعاة أن أجر الحق المبذول لا يعجل فى الدنيا، وأن للمقام المحمود موعداً فى غير هذه الدار يتعلق به وحده الدعاة الأبرار .
مشهورون ومجهولون
أعجبنى فى اليمين التى حلف عليها أنس بن النضر أن الرجل كان يشهد الله وحده، وينشد أولاً وآخراً رضاه .
لقد أحزنه أن الله لم يره فى ميدان القتال ببدر، فأقسم أن يرى الله نفسه فى أول لقاء بالكافرين، وأن يضرب أعلى مثل فى التفانى والاستبسال .
وذلك فى ذات الإله وإن يشأ
يبارك على أوصال شلو ممزع
لم يدر فى خلد أنس تطلع إلى جاه أو تشوق إلى شهرة .
كان الرجل أزكى نية وأشرف نفساً من أن يلم بهذه الدنايا .
والعمل لا يوصف بالصلاح ولا يرشح للقبول إلا إذا خلص لله وحده، وقصد به وجهه .
روى أحمد بن حنبل عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أخوف ما أخاف على أمتى الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال: الرياء !
يقول الله عز وجل ـ للمرائين ـ إذا جزى الله الناس بأعمالهم: “ اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون فى الدنيا، فانظروا: هل تجدون عندهم جزاء ؟ “ .
والواقع أنه لا جزاء عندهم لا فى الآخرة ولا فى الدنيا، فماذا يرجو عبد من عبد إلا أن يزداد ذلاً ؟ وماذا يطلب فقير من فقير إلا أن يزداد عيلة !
إن الإخلاص لله سياج العز وضمان الخير فى الحياتين .
وعندما تصدق النية فلا يخشى على العبد من مجاهرة بصلاة أو جهاد أو صدقة، إذ الأساس استهداف وجه الله، وليس على البال غيره .
ومن الحماقة أن يطلب إنسان ثناء الخلق وهو يعلم أن الله قد ستر عليه ذنوباً لو كشفوها لسودوا وجهه !!
الله أولى بالاتجاه والمودة وأحق بالحفاوة والالتفات ..
ومن عظمة الإيمان اكتفاء المرء بنظر الله إليه، وإيثاره أن يعمل فى صمت، أو يموت جندياً مجهولاً، وهذا الاكتفاء دلالة استغراق المرء فى الشهود الإلهى، ورسوخ قدمه فى مقام الإحسان، وتلك هى الولاية كما شرحها معاذ بن جبل رضوان الله عليه .
روى ابن ماجه أن عمر بن الخطاب خرج إلى المسجد فوجد معاذاً عند قبر الرسول صلى الله عليه وسلم
يبكى ! فقال: ما يبكيك ؟ قال: حديث سمعته من رسول الله: “ اليسير من الرياء شرك، ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة، إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء، الذين إن غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى يخرجون من كل غبراء مظلمة “ .
أجل إن الله يحب أولئك العاملين فى صمت، الزاهدين فى الشهرة والسلطة، المشغولين باللباب عن القشور، المتعلقة قلوبهم بالله، لا تحجبهم عنه فتنة ولا تغريهم متعة .
وما أفقر أمتنا إلى هذا الصنف المبارك، بهم ترزق وبهم تنصر .
إلا أن بعض العبادات الأصلية ما تتم إلا فى جو العلانية والظهور كالتعلم والدعوة والقضاء والجهاد، بل إن قيام الأركان الأساسية يتطلب ذلك، وهنا تؤكد خطورة النية المصاحبة فى تقويم أى عمل صحة وقبولاً .
وقد كان أبو بكر يقوم الليل فيقرأ سراً، وكان عمر يقوم فيقرأ جهراً، فلما سئل الصديق قال: أسمعت من أناجى ! ولما سئل الفاروق قال: أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان !!
إن إخلاص النية هنا وهناك يجعل السر والعلن سواء .
وذلك ما ينبغى أن يعيه الدعاة والقضاة والساسة والقادة، وكل من يحملون مؤنة الآخرين، أو يكونون فى موضع الأسوة .
والإخلاص لا يمنع المسلم من الاهتمام بنفسه وسمعته وكرامته .
إن الله كلفنا أن نجمل أبداننا وملابسنا، وكره لنا رثاثة الهيئة وكآبة المنظر فى الأهل والمال، فليس من الرياء أن نصون أحوالنا ونحصن مكاناتنا من الظنون والمكدرات !
من حق الكريم ألا يتهم بالبخل كما أن من حق النظيف ألا يرمى بالأدران .
لكن الدفاع عن الكيان المادى والمعنوى شىء وطلب وجوه الناس بالعمل الصالح شىء آخر .
وقد خلد القرآن الكريم ذكر فريقين من الهداة الأتقياء:
ـ أحدهما: سجل أسماءه وجهاده وأثنى على رجاله أطيب الثناء .
ـ والآخر: طوى أسماءه ونشر سيرته واكتفى بشرح عمله وتزكية أثره .
من الأولين أنبياء الله الكرام الذين غرسوا هدايات السماء فى الأرض، وذادوا عنها أوبئة الكفر والعدوان .
والقرآن عندما يثبت تاريخاً لا يعنى إلا بإبراز المناقب التى تؤخذ منها الأسوة والفضائل التى سبقت بذويها وأعلت أقدارهم !
تدبر قوله تعالى: “ واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولى الأيدى والأبصار . إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار . وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار “ [ ص: 47 ] . إن هذه الآيات تنبه إلى الاستطالة المادية والمعنوية لهؤلاء الدعاة الكبار، فليست الأيدى والأبصار هذه الأعضاء والحواس التى يشترك فيها العباقرة والدهماء، ولكنها القدرة والمعرفة !
وهل يتقدم من يتقدم، ويتأخر من يتأخر إلا بهذا التفاوت البعيد فى الهمم والثقافات ؟؟
وندع الحديث عن هذا الفريق الذى رفع الله ذكره إلى الفريق الآخر الذى أسدل على أسماء رجاله ستار كثيف فما يعرفهم إلا ربهم .
من يدرى ؟ لعل هذا تكريم وتثبيت للذين يعملون حتى الممات بعيداً عن الأضواء، إنهم أسمعوا من يناجون ! ولن يضيع من عملهم مثقال ذرة وإن جهل الناس من هم
لهم أسوة حسنة فيمن حكى القرآن أنباءهم وترك ـ غير نسيان ـ أسماءهم .
من هؤلاء مؤمن آل فرعون الذى أحس نية الغدر بموسى والتآمر على قتله، فاصطنع أسلوب المحايد فى عرض نصحه وتفكيره قائلاً:
ما خطورة أن يؤمن أحد بالله، أو يزعم أنه يحمل رسالة من لدنه:
ـ إن كان كاذباً فستفضحه الأيام، ولن يضر إلا نفسه .
ـ وإن كان صادقاً فإن العدوان عليه استهداف لعقاب الله الكبير، وليس من العقل التعرض لعقاب الله .
واستتلى يقول: قد نكون اليوم أقوياء غالبين، ولكننا بشر لا نفلت من أصابع القدرة العليا عندما تقبض علينا فلا ينبغى أن نجور على عباد الله ..
قال تعالى مخلداً دفاع هذا المحامى المؤمن:
“ وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه: أتقتلون رجلاً أن يقول ربى الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم ؟! وإن يك كاذباً فعليه كذبه، وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذى يعدكم، إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب . يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين فى الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا .. قال فرعون: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد “ [ غافر: 29 ] .
وأحب أن أقف قليلاً عند رد فرعون: هل كان الرجل يعتقد فعلاً أنه راشد، أم أنه كان يحاد الله ورسوله وهو يدرى أنه مبطل عنيد ؟
الواقع أن كثيراً من الضالين يمضون فى طريق الغواية وهم يستحسنونها ويستريحون إليها ويعتقدون أن لهم وجهة نظر جديرة بالتسليم .
وفى هؤلاء يقول الله تعالى: “ إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون “ [ النمل: 4 ] ويقول: “ أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم “ [ محمد: 14 ] .
ويقول المفسرون فى قوله تعالى: “ إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح “ نزلت الآية فى أبى جهل عندما قاد المشركين فى معركة بدر، فقد قال لما التقى الجمعان: اللهم أينا كان أفجر قاطعاً للرحم ـ يعنى نفسه ومحمداً ـ فاحفه اليوم أى أهلكه ..
فكأن هذا الكفور الكنود كان إلى الرمق الأخير يعتقد أنه محق فيما ارتكب !!
إن الحجاب المسدل على بصيرته لم يسمح لشعاع من الخير أن يتسلل إلى نفسه، وهو المسئول عن ذلك الطمس، فلولا إدمان المعصية وتعود الجريمة، ما أصابه هذا العمى !
وقد يكون كلا الرجلين “ فرعون “ و “ أبو جهل “ كاذباً فى حديثه عن نفسه وحواره مع قومه، فمثلهما من الدهاء والقدرة بحيث يدرى أنه مسترسل مع هواه، وأنه يكابر الحقائق، ويشاق الله ورسله .
وقد كشف القرآن الكريم فى موضع آخر أن فرعون وقومه لما جاءتهم آيات الله الباهرة “ جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً “ [ النمل: 14 ] كما قال لرسوله محمد شارحاً موقف أبى جهل وأشباهه “ إنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون “ [ الأنعام: 33 ] .
وقد كان مؤمن آل فرعون يحس أنه أمام جماعة من الأفاكين المغرورين، فأخذ رويداً رويداً يتخلى عن موقف الحياد الذى بدأ به نصائحه وارتفعت درجة الحماس فى خطابه لفرعون ومن معه خصوصاً عندما قال فرعون ساخراً لوزيره هامان: “ ابن لى صرحاً لعلى أبلغ الأسباب، أسباب السموات فاطلع إلى إله موسى، وإنى لأظنه كاذباً .. “ [ غافر ] .
عندئذ احتدت لهجة الرجل المؤمن، واضطرم الإخلاص فى قلبه ولسانه فصاح “ يا قوم مالى أدعوكم إلى النجاة وتدعوننى إلى النار .. “ .
وقال: لا جرم أن ما تدعوننى إليه ليس له دعوة فى الدنيا ولا فى الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمرى إلى الله “ [ غافر ] .
ولكن هذه المناشدة الخالصة الحادبة لم تلق آذاناً واعية فمضى فرعون إلى مصرعه، وأورد قومه الحتوف، وبقى النصح الجميل الصادق الذى بذله الرجل المؤمن خالداً على الدهر يكشف عن أسرار القدرة العليا فيما أنزلت بالظالمين .
من هذا الرجل الذى يردد كلام الأنبياء وليس منهم ؟ لا نعرفه، ولا نعرف عن مولده ومماته شيئاً .
ليكن رمزاً للعمل بعيداً عن الأضواء، استعلاء على الشهرة فى الأرض، وإيثار العقبى فى السماء !!
وهذا رجل آخر من الطراز عينه، رجل وجد العراك محتدماً بين رسل الله وحماة الانحراف، هؤلاء يريدون أن يبلغوا عن الله ويغيروا الشر السائد، وأولئك يريدون تكميم أفواههم وإخراس ألسنتهم ..
ونما الخصام بين الفريقين، وبلغ الأمر بأعداء الوحى أن تشاءموا من وجود المرسلين بينهم، ومن دعوتهم فيهم، فتهددوهم بالعذاب الأليم .
وجاء الرجل المؤمن من بعيد يهيب بقومه أن يعقلوا !
وقال: “ يا قوم اتبعوا المرسلين، اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون “ [ يس: 26 ] .
لقد أمن قومه على أموالهم فلم يرزأهم أحد فيها، وهذه الدنيا التى يحرصون عليها ستبقى لهم مزدانة بالإيمان الحق، فما أجمل هذا !
ثم تساءل: ما يمنعنا من الإيمان ؟ وما يغرينا بالشرك ؟
“ وما لى لا أعبد الذى فطرنى وإليه ترجعون ؟ أأتخذ من دونه آلهة، إن يردن الرحمن بضر لا تغنى عنى شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون ؟ إنى إذاً لفى ضلال مبين . إنى آمنت بربكم فاسمعون “ .
إنه يريد إسماعهم ليرعووا ويقتدوا ولا يستوحشوا من الطريق الذى يدعوهم إليه .
وبقى الرجل إلى آخر رمق ينصح أهل بلده ليرشدوا، بيد أنه مات تاركاً إياهم على غوايتهم .
فلما وجد طيب عيشه عند ربه وثمرة إيمانه تحف به وتقر عينه تذكر الرجل المخلص قومه فتمنى لهم الهدى “ يا ليت قومى يعلمون بما غفر لى ربى وجعلنى من المكرمين “ .
ولكن قومه أصروا على العمل فمستهم نفحة من عذاب الله أخمدت أنفاسهم وجعلتهم أثراً بعد عين .
من هذا الرجل الطيب القلب السمح النفس ؟
لا نعرفه، حسبه أن ربه يعرفه، إنه لم يعمل إلا له !
والفتية أهل الكهف الذين أحبوا ربهم حباً جماً، وغالوا بتوحيده مغالاة ظاهرة، من هم ؟ لا ندرى، لقد رفض القرآن أن يجلو النقاب عن أشخاصهم وعددهم “ ربهم أعلم بهم “ “ ربى أعلم بعدتهم “ .
لكنه كشف عن جلال يقينهم وسمو معرفتهم بالله وإجماعهم على إفراده بالعبادة، وازدرائهم لكل انحراف إلى الشرك “ ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً لقد قلنا إذن شططاً “ .
كما كشف عن تبرمهم الشديد بالمجتمع الوثنى وعزوفهم عن البقاء فيه، وخشيتهم من العودة إليه إذا ضبطوا متلبسين بإيمان !
وانظر مدى كراهيتهم للكفر، والوقوع تحت سطوة أهله، وقول بعضهم لبعض “ إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم فى ملتهم ولن تفلحوا إذا أبداً ! “ [ الكهف: 20 ]
إن العيش بمبدأ كريم ولمبدأ كريم شىء عظيم حقاً .
وإنما يتفجر الفداء والإخلاص من عمق هذه الحياة الرفيعة .
والأمة العربية فتكت بها أمراض الرياء، وعلل التعاظم الأجوف والرغبة فى الظهور بالحق أو بالزور، ولا يمكن أن تنهض أمة مع هذه الأدواء الخسيسة !
إننا بحاجة إلى أعداد كبيرة من الجنود المجهولين، يعملون فى ألف ميدان، ويسدون ألف ألف ثغرة .
فهل يوجد من يكتفون بنظر الله إليهم، ويستغنون عن أنظار الناس ؟
التنادى بالجهاد المقدس
فى صدر تاريخنا، وعلى امتداده مع الزمن، كان العالم الإسلامى يعرف بحبه للجهاد وارتضائه لأشق التضحيات كى يحق الحق ويبطل الباطل .
كان هذا العالم الرحب عارم القوى الأدبية والمادية حتى يئس المعتدون من طول الاشتباك معه، فقد كبح جماحهم، وقلم أظفارهم ورد فلولهم مذعورة من حيث جاءت، أو ألحق بهم من المغارم والآلام ما يظل بينهم عبرة متوارثة وتأديباً مرهوباً ..
ويرجع ذلك إلى أمور عدة:
أولها: أن الحقائق الدينية عندنا لا تنفك أبداً عن أسباب صيانتها ودواعى حمايتها، فهى مغلفة بغطاء صلب يكسر أنياب الوحوش إذا حاولت قضمها .
وذلك هو السر فى بقاء عقائدنا سليمة برغم المحاولات المتكررة لاستباحتها، تلك المحاولات التى نجحت فى اجتياح عقائد أخرى أو الانحراف بها عن أصلها .
ثم إن الإسلام جعل حراسة الحق أرفع العبادات أجراً، أجل فلولا يقظة أولئك الحراس وتفانيهم ما بقى للإيمان منار، ولا سرى له شعاع “ قيل يا رسول الله ما يعدل الجهاد فى سبيل الله ؟ قال: لا تستطيعونه ! فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثة، كل ذلك يقول: لا تستطيعونه ! ثم قال: مثل المجاهد فى سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صلاة ولا صيام .. حتى يرجع المجاهد فى سبيل الله “ [ البخارى ] .
وإذا كان فقدان الحياة أمراً مقلقاً لبعض الناس فإن ترك الدنيا بالنسبة لبعض المجاهدين بداية تكريم إلهى مرموق الجلال شهى المنال حتى أن النبى صلى الله عليه وسلم حلف يرجو هذا المصير .
“ والذى نفس محمد بيده لوددت أن أغزو فى سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل “ [ البخارى ] .
فأى إغراء بالاستماتة فى إعلاء كلمة الله ونصرة الدين أعظم من هذا الإغراء ؟
لقد كانت صيحة الجهاد المقدس قديماً تجتذب الشباب والشيب وتستهوى الجماهير من كل لون، فإذا سيل لا آخر له من أولى الفداء والنجدة يصب فى الميدان المشتعل . فما تضع الحرب أوزارها إلا بعد أن تكوى أعداء الله وتلقنهم درساً لا ينسى .
هل أصبحت هذه الخصائص الإسلامية ذكريات مضت أم أنها محفورة فى عقلنا الباطن تحتاج إلى من يزيل عنها الغبار وحسب ؟
إن الاستعمار الذى زحف على العالم الإسلامى خلال كبوته الأخيرة بذل جهوداً هائلة لشغل المسلمين عن هذه المعانى أو لقتل هذه الخصائص النفسية فى حياتهم العامة، وذلك ليضمن فرض ظلماته ومظالمه دون أية مقاومة !
وقد توسل إلى ذلك بتكثير الشهوات أمام العيون الجائعة، وتوهين العقائد والفضائل التى تعصم من الدنايا، وإبعاد الإسلام شكلاً وموضوعاً عن كل مجال جادة، وتضخيم كل نزعة محلية أو شخصية تمزق الأخوة الجامعة وتوهى الرباط العام بين أشتات المسلمين .
وقد أصاب خلال القرن الأخير نجاحاً ملحوظاً فى سبيل غايته تلك ..
ومن ثم لم تنجح محاولات تجميع المسلمين لصد العدو الذى جثم على أرضهم واستباح مقدساتهم ..
وما قيمة هذا التجميع إذا كان الذين ندعوهم قد تحللوا من الإيمان وفرائضه، والقرآن وأحكامه .
إن تجميع الأصفار لا ينتج عدداً له قيمة !!
وإن الجهد الأول المعقول يكمن فى رد المسلمين إلى دينهم، وتصحيح معالمه ومطالبه فى شئونهم، ما ظهر منها وما بطن ..
عندئذ يدعون فيستجيبون ويكافحون فينتصرون، ويحتشدون فى معارك الشرف فيبتسم لهم النصر القريب وتتفتح لهم جنات الرضوان .
إن الرجل ذا العقيدة عندما يقاتل لا يقف دونه شىء .
أعجبتنى هذه القصة الرمزية الوجيزة، أسوقها هنا لما تنضح به من دلالة رائعة:
“ حكوا عن قوم فيما مضى كانوا يعبدون شجرة من دون الله، فخرج رجل مؤمن من صومعته وأخذ معه فأساً ليقطع بها هذه الشجرة، غيرة لله وحمية لدينه ! فتمثل له إبليس فى صورة رجل وقال له: إلى أين أنت ذاهب ؟ قال: أقطع تلك الشجرة التى تعبدون من دون الله، فقال له: اتركها وأنا أعطيك درهمين كل يوم، تجدهما تحت وسادتك إذا استيقظت كل صباح ! ..
“ فطمع الرجل فى المال، وانثنى عن غرضه، فلما أصبح لم يجد تحت وسادته شيئاً، وظل كذلك ثلاثة ايام، فخرج مغضباً ومعه الفأس ليقطع الشجرة ! قال: ارجع فلو دنوت منها قطعت عنقك ..
“ لقد خرجت فى المرة الأولى غاضباً لله فما كان أحد يقدر على منعك ! أما هذه المرة فقد أتيت غاضباً للدنيا التى فاتتك، فما لك مهابة، ولا تستطيع بلوغ إربك فارجع عاجزاً مخذولاً .. “ .
إن الغزو الثقافى للعالم الإسلامى استمات فى محو الإيمان الخالص وبواعثه المجردة، استمات فى تعليق الأجيال الجديدة بعرض الدنيا ولذة الحياة، استمات فى إرخاص المثل الرفيع وترجيح المنافع العاجلة ..
ويوم تكثر النماذج المعلولة من عبيد الحياة ومدمنى الشهوات فإن العدوان يشق طريقه كالسكين فى الزبد، لا يلقى عائقاً ولا عنتاً ..
وهذا هو السبب فى جؤارنا الدائم بضرورة بناء المجتمع على الدين وفضائله، فإن ذلك ليس استجابة للحق فقط، بل هو السياج الذى يحمينا فى الدنيا كما ينقذنا فى الآخرة ..
إن ترك صلاة ما قد يكون إضاعة فريضة مهمة، واتباع نزوة خاصة قد تكون ارتكاب جريمة مخلة، لكن هذا أو ذاك يمثلان فى الأمة المنحرفة انهيار المقاومة المؤمنة والتمهيد لمرور العدوان الباغى دون رغبة فى جهاد أو أمل فى استشهاد، ولعل ذلك سر قوله تعالى “ فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً “ [ مريم 59 ] .
إن كلمة الجهاد المقدس إذا قيلت ـ قديماً ـ كان لها صدى نفسى واجتماعى بعيد المدى، لأن التربية الدينية رفضت التثاقل إلى الأرض والتخاذل عن الواجب، وعدت ذلك طريق العار والنار وخزى الدنيا والآخرة .
وهذه التربية المغالية بدين الله، المؤثرة لرضاه أبداً هى التى تفتقر إليها أمتنا الإسلامية الكبرى فى شرق العالم وغربه .
وكل مؤتمر إسلامى لا يسبقه هذا التمهيد الحتم فلن يكون إلا طبلاً أجوف !
والتربية الدينية التى ننشدها ليست ازوراراً عن مباهج الحياة التى تهفو إليها نفوس البشر، ولكنها تربية تستهدف إدارة الحياة على محور من الشرف والاستقامة، وجعل الإنسان مستعداً فى كل وقت لتطليق متعه إذا اعترضت طريق الواجب .
كنت أقرأ مقالاً مترجماً فى أدب النفس فاستغربت للتلاقى الجميل بين معانيه وبين مواريثنا الإسلامية المعروفة التى يجهلها للأسف كثير من الناس .
تأمل معى هذه العبارة:
“ يقول جوته الشاعر الألمانى: من كان غنياً فى دخيلة نفسه فقلما يفتقر إلى شىء من خارجها ! “
أليس ذلك ترجمة أمينة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس “ ! [ البخارى ]
عن أبى ذر رضى الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ترى كثرة المال هو الغنى ؟ قلت: نعم يا رسول الله ! قال: فترى قلة المال هو الفقر ؟ فقلت: نعم يا رسول الله . قال: إنما الغنى غنى القلب والفقر فقر القلب “ ..
واسمع هذه العبارة من المقال المذكور:
“ النفس هى موطن العلل المضنية، وهى الجديرة بالعناية والتعهد، فإذا طلبت منها أن تسوس بدنك سياسة صالحة فاحرص على أن تعطيها من القوت ما تقوى به وتصح ..
“ هذا القوت شىء آخر غير الأخبار المثيرة والملاهى المغرية والأحاديث التافهة والملذات البراقة التافهة، ثم انظر إليها كيف تقوى بعد وتشتد، إن التافه الخسيس مفسدة للنفس ! واعلم أن كل فكرة تفسح لها مكاناً فى عقلك، وكل عاطفة تتسلل إلى فؤادك تترك فيك اثرها، وتسلك بك أحد طريقين: إما أن تعجزك عن مزاولة الحياة وإما أن تزيدك اقتداراً وأملاً “.
أليس هذا الكلام المترجم شرحاً دقيقاً لقول البوصيرى:
وإذا حلت الهداية نفساً
نشطت للعبادة الأعضاء !
وتمهيداً حسناً لقول ابن الرومى:
أمامك فانظر أى نهجيك تنهج
طريقان شتى مستقيم وأعوج
واقرأ هذه الكلمات أيضاً فى المقال المترجم: “ رب رجل وقع من الحياة فى مثل الأرض الموحلة فكادت تبتلعه، ولكنه ظل يجاهد للنجاة مستيئساً، وبينا هو كذلك انهارت قواه وشق عليه الجهاد وأسرعوا به إلى الطبيب .. الطبيب لم يجد بجسده علة ظاهرة . كل ما يحتاج إليه الرجل ناصح يعلمه كيف ينازل الحياة وجهاً لوجه لا تثنيه عقبة ولا رهبة “.
إن هذا الكلام يذكرنى بما روى عن جعفر الصادق: من طلب ما لم يخلق تعب ولم يرزق ! قيل وما ذاك ؟ قال: الراحة فى الدنيا .
وأنشدوا:
يطلب الراحة فى دار الفنا
خاب من يطلب شيئاً لا يكون
إن التربية التى ننشدها نحن المسلمين ليست بدعاً من التفكير الإنسانى الراشد، إنها صياغة الأجيال فى قوالب تجعلها صالحة لخدمة الحق وأداء ضرائبه، واحتقار الدنيا يوم يكون الاستمساك بها مضيعة للإيمان ومغاضبة للرحمن ..
والاستعمار يوم وضع يده على العالم الإسلامى من مائة سنة صب الأجيال الناشئة فى قوالب أخرى، نمت بعدها وهى تبحث عن الشهوات وتخلد إلى الأرض، فلما ختلها عن دينها بهذه التربية الدنيئة استمكن من دنياها فأمست جسداً ونفساً لا تملك أمرها، ولا تحكم يومها ولا غدها ..
بل إنها فى تقليدها للعالم الأقوى تقع فى تفاوت مثير:
عندما ننقل المباذل ومظاهر التفسخ فى الحضارة الغربية ننقلها بسرعة الصوت، أما عندما ننقل علماً نافعاً وخيراً يسيراً فإن ذلك يتم بسرعة السلحفاة .
وكثير من الشعوب الإسلامية تبيع ثرواتها المعدنية والزراعية بأكوام من المواد المستهلكة وأدوات الزينة والترف مع فقرها المدقع إلى ما يدفع عنها جشع العدو ونياته السود فى اغتيالها وإبادتها !
وظاهر أن هذا السلوك استجابة طبيعية لأسلوب التربية الذى أخذت به منذ الصغر، وأثر محتوم لاتخاذ القرآن مهجوراً، ونبذ تعاليمه وقيمه، وهل ينتج ذلك إلا طفولة تفرح باللعب المصنوعة والطرف الجديدة والملابس المزركشة، والمظاهر الفارغة ؟
ولا بأس بعد توفير ذا كله من استصحاب بعض الآثار الدينية السهلة !
ولتكن هذه الآثار الاحتفال بذكرى قديمة أو زيارة قبر شهير !
ثم يسمى هذا السلوك التافه تديناً !
لقد جرب المسلمون الانسلاخ عن دينهم واطراح آدابه وترك جهاده فماذا جر عليهم ذلك ؟ حصد خضراءهم فى الأندلس فصفت منهم بلاد طالما ازدانت بهم وعنت لهم، وما زال يرن فى أذنى قول الشاعر:
قلت يوماً لدار قوم تفانوا
أين سكانك العزاز علينا ؟
فأجابت هنا أقاموا قليلاً
ثم ساروا ولست أعلم أينا !
أسمعت هذا النغم الحزين يروى فى اقتضاب عقبى اللهو واللعب، عقبى إضاعة الصلوات واتباع الشهوات .. إن عرب الأندلس لم يتحولوا عن دارهم طائعين ولكنهم خرجوا مطرودين .
أفلا يرعوى الأحفاد مما أصاب الأجداد ؟
لقد قرأت أنباء مؤتمرات عربية وإسلامية كثيرة اجتمعت لعلاج مشكلة فلسطين، فكنت أدع الصحف جانباً ثم أهمس إلى نفسى: هناك خطوة تسبق كل هذا، خطوة لا غنى عنها أبداً:
هى أن يدخل المسلمون فى الإسلام ..
إننى ألمح فى كل ناحية استهانة بالفرائض، وتطلعاً إلى الشهوات، وزهادة فى المخاطرة والنقب وإيثاراً للسطوح على الأعماق والأشكال عن الحقائق، وهذه الخلال تهدم البناء القائم . فكيف تعيد مجداً تهدم أو ترد عدواً توغل ..؟
ما أحرانا أن نعقل التحذير النبوى الكريم “ إنما أخشى عليكم شهوات الغى فى بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى “ فإذا أصغينا إلى هذا النذير ابتعدنا عن منحدر ليست وراءه إلا هاوية لا قرار لها، ثوى فيها قبلنا المفرطون والجاحدون .
الرب نوري وخلاصي , ممن اخاف!
الرب حصن حياتي , ممن ارتعب!
عندما هجم فاعلوا الاثم , خصومي واعدائي ليلتهموا لحمي ,
تعثروا وسقطوا!
ان اصطف ضدي جيش , لا يخاف قلبي!
ان نشبت علي حرب , اضل في ذلك مطمئنا
سلام ونعمة ألي كل الاحباب قبل الاعداء
أنا من اتهمته بالشزوز وبالنصب و بكل شئ قبيح ؟أنا من تجنيت عليه بالكذب ماذا تريد مني بعد أن عرفت الله الحقيقي لماذا تكذب وتتجني عليا أيها الكاذب وليس الكاتب .فهل تعلم يا من تجنيت عليا بانني رفضت ميراثا بحوالي 2 مليون جنيه مصري فكيف تتجني عليا وتروج لاشاعة بانني تركت اسلام العنف بالنور من اجل الاموال . لماذا تتهمني في سمعتي يا من لا تستحي فالكل يعرفني جيدا . لقد اتصلت باحي لاستعلم منه عن تلك الاكاذيب فاحبرني بانه لم يقل لك اي شئ من هذا الكلام القذر وهو بنفسه طلب مني أن أصلي له أنت كاذب وتروج لاشاعات وكلام لا اساس له من الصحة ولكن سوف اصلي لك لكي ينور الرب يسوع طريقك كما أضاء لي طريقي .
بيتر أثناثيوس
أو ماهر الجوهري سابقا
كلمة "وَقَوْلِهِمْ" فى الآية التى ذكرتها تعود على اليهود واليهود لم يقتلوا ولم يصلبوا السيد المسيخ بل أن من صلبه هم الجنود الرومان بعد هياج اليهود أمام بيلاطس وقولهم له "فَأَجَابَ جَمِيعُ الشَّعْب وَقَالُوا: «دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلاَدِنَا»." (مت 27 : 25) وطبعاً سعادتك تعرف إن الدم يطلب من القاتل إذن هم ما قتلوه وما صلبوه يقيناً لأن الذين صلبوه هم الرومان وأرجو أن تخاول فهم هذه الأية "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا" برجاء محاولة فهم لماذا بنى إسرائيل فقط عندما يقتلوا إنساناً بلا خطية كأنهم قتلوا كل البشر وعندما يحيا أى يقوم من الموت يحيا فيه كل الناس كما قال الرسول بولس "لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ، نَصِيرُ أَيْضًا بِقِيَامَتِهِ." (رو 6 : 5).
ملحوظة أخيرة طبعاً ستقول الله الذى خلق الإنسان بكلمته ألا يستطيع أن يخلصه بكلمته أنت محق فالمسيح هو كلمة الله إذن الله الذى خلق الإنسان بكلمته هو الذى خلصه بكلمته أيضاً وقرآنكم لم يستطيع إنكار أن المسيح هو كلمة الله وأن بلا خطية وأنه يقيم الموتى ويخلق من الطين طيراً بإذن ربه (أى بقوة لاهوته) وقد قالها قرآنكم صراحة "أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ" أى أن السيد المسيح يختلف عن جميع الأنبياء فهو الله الظاهر فى الجسد فنحن لا نؤله إنساناً وكلمة إبن هنا لا تعنى ولادة جسدية بل تنسبه إلى المصدر كما نقول أبناء مصر فهل مصر تزوجت وأنجبت 85 مليون وعلى فكرة نحن مسيحيين ولسنا نصارى لأن النصارى هم الذين كانوا يؤلهوا السيدة العذراء أما عندما نقول بإسم الآب والإبن والروح القدس إله واحد سأعطيك مثلاً بسيطاً الإنسان هو جسد وروح ونفس عاقلة ولا نقول أن كل إنسان هو ثلاثة وإذا إنفصلت الروح من الجسد صار الإنسان غير موجود...
ربنا يرشدكم إلى الحق والصراط المستقيم الذى تطلبون أن تهتدوا إليه كل يوم خمس مرات منذ بداية الإسلام وهذا يدل على أنه ليس هو الإسلام لأن من هو داخل مكان لا يسأل كيف يستطيع الوصول إليه....
إرسال تعليق